تقوم الجامعات اليوم بعمل يُحمد في تغطية المفاهيم الكبرى المتعلقة بتغيّر المناخ، وانبعاثات الكربون، والتنوع البيولوجي، والطاقة الخضراء. ولكن تكمن المشكلة في أمر جوهري: المعرفة وحدها لا تكفي. فعندما ينتقل الطلاب إلى سوق العمل، لا تكون التحديات الكبرى التي تواجههم مرتبطة بما يعرفونه، بل بكيفية إيصال هذا الذي يعرفونه.
العديد من المهنيين الشباب يستطيعون شرح تحليل دورة الحياة أو إعداد تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) داخل قاعات الدراسة، لكنهم يتجمدون عندما يُطلب منهم تقديمها لمدير، أو شرحها لعميل، أو إقناع جمهور متشكك. في مجال الاستدامة، هذا ليس أمراً ثانوياً؛ فضعف التواصل لا يؤدي فقط إلى الفشل في إيصال الفكرة، بل يتسبب في خلق البلبلة، وتقويض الثقة، ويفتح المجال أمام الغسل الأخضر (greenwashing).
فجوة التواصل: واقع يتسع
الاستدامة لا تتعلق فقط بالسياسات أو المؤشرات، بل تتعلق أيضًا بالبشر. فإذا لم يصل الرسالة إلى الجمهور، فستفشل المهمة من الأساس.
المشكلة الأساسية تكمن في أن الجامعات تمنح الطلاب معرفة تقنية متعمقة، لكنها نادرًا ما تدرّبهم على كيفية التواصل الفعّال بها داخل بيئات العمل. فكثير من الخريجين يمكنهم شرح أنواع الانبعاثات أو حسابات الكربون نظريًا، لكنهم يعجزون عن ترجمة ذلك إلى رسائل واضحة ومقنعة للعملاء أو أصحاب المصلحة أو وسائل الإعلام.
ووفقًا لتقرير المهارات الخضراء العالمي الصادر عن «لينكد إن» لعام 2023، فإن الطلب على الوظائف الخضراء في ازدياد مطّرد، ولكن التواصل، خاصة في سياق تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية، لا يزال من أكثر المهارات طلبًا وأقلها تطورًا. المشكلة لا تكمن في نقص المعرفة، بل في ضعف القدرة على تحويل هذه المعرفة التقنية إلى رسائل قادرة على الإقناع والتأثير وتحفيز العمل الحقيقي.
كيف يمكن للجامعات سدّ هذه الفجوة؟
لقد حان الوقت لجعل مهارات التواصل جزءًا جوهريًا من تعليم الاستدامة. ويتحقق ذلك عبر:
- تعليم فنّ السرد القصصي، لا مجرد قراءة الجداول: يجب تدريب الطلاب على تحويل البيانات المعقدة إلى قصص مؤثرة عبر التقارير والعروض التقديمية والحملات والمنشورات الرقمية.
- جلب بيئة العمل إلى قاعة الدرس: من خلال دعوة مهنيين في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية للمشاركة في التدريس، ومحاكاة التحديات الواقعية، وعرض أمثلة حقيقية على النجاح في سوق العمل.
- إعادة النظر في أنظمة التقييم: بحيث يُقيَّم الطلاب على ما سيفعلونه عمليًا، ككتابة تحديثات لأصحاب المصلحة، أو تصميم استجابات لأزمات حقيقية، أو إعداد استراتيجيات خضراء مُقنعة.
التعلم من خلال التدريب العملي
يُسرّع التعلم عندما يكون حيًّا وواقعيًا. فالتدريب العملي يضع الطلاب أمام مواقف حقيقية ذات مواعيد ضيقة، وتضارب في المصالح، وحاجة للتواصل الفعّال مع فرق متنوعة لجعل الاستدامة ذات معنى.
وفي دولة الإمارات والمنطقة العربية عامة، بدأت العديد من الشركات تفتح أبوابها لشراكات مع الطلاب. وتؤكد منظمة اليونسكو-يونيفوك (UNESCO-UNEVOC) أن التعلم المدمج بالعمل لا يُعِدّ الطلاب فقط، بل يُحوّلهم تحوّلاً حقيقيًا.
كما أن الشهادات القصيرة المتخصصة، مثل إعداد تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية أو التواصل بشأن مخاطر المناخ، تكتسب رواجًا متزايدًا. فهي تُكمّل التعليم الأكاديمي بمهارات يبحث عنها أصحاب العمل بجدّية.
بعد التخرج: بداية جديدة، لا نهاية
حتى بعد التخرج، يعاني العديد من المهنيين في التعبير الواثق عن مفاهيم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. ليس لأنهم لا يهتمون، بل ببساطة لأن أحدًا لم يُعلّمهم كيف يفعلون ذلك.
ويمكن للشركات أن تساهم من خلال:
- دمج الاستدامة في جميع الأقسام: فهي لا تخص مكتبًا جانبيًا، بل يجب أن تكون جزءًا من المالية، والعمليات، والتواصل، واستراتيجية الإدارة العليا.
- تقديم تدريب عملي في التواصل: عبر ورش العمل والتوجيه المهني، لمساعدة الموظفين الجدد على تحسين كيفية عرض الأفكار، وكتابة التحديثات، وتكييف نبرة الخطاب بحسب الجمهور.
- خلق بيئة تطرح فيها الأسئلة مثل: “ماذا يعني هذا؟”: فثقافة الفضول تعزز الثقة طويلة الأمد.
التدريب يصنع الوضوح
كما يتدرّب طلاب القانون في محاكم صورية، ويُجري المهندسون تجاربهم في المختبرات، ينبغي لطلاب الاستدامة أن يتدربوا على كتابة البيانات الصحفية، وفهم تقييمات ESG، والتفاعل مع أزمات المناخ. هذا ليس مجرد تدريب مسبق، بل تمكين حقيقي؛ يمنحهم الأدوات اللازمة ليكونوا قادة، لا تابعين.
الطريق إلى الأمام
لا يعني هذا أن نتخلى عن الجدية الأكاديمية، بل أن نُضيف إليها قوة عملية. يجب ألا يُنظر إلى مهارات التواصل على أنها زخرف لغوي، بل كمهارات قيادية لا غنى عنها. فالتأثير الحقيقي لا يتحقق بالمعرفة وحدها، بل عندما تتحرك المعرفة، وتلهم، وتكسب الثقة.
نحن بحاجة إلى نوع جديد من خريجي الاستدامة، أولئك الذين لا يكتفون بفهم العلم، بل يُتقنون تحفيز العمل من خلاله. فهنا يكمن الفارق بين امتلاك الإجابة، وجعل تلك الإجابة تُحدِث فرقًا.
لكن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق الجامعات وحدها، بل تتطلب جهدًا جماعيًا:
- يجب على الدول أن تُدرج تعليم مهارات التواصل في مجال الاستدامة ضمن استراتيجياتها الوطنية للتعليم، لضمان إعداد خريجين مؤهلين لتمثيل صناعاتهم وقيمهم عالميًا.
- على المدن أن تخلق بيئات تعاونية بين الأوساط الأكاديمية، وقطاع الأعمال، والمجتمع المدني، بما يُتيح تعليمًا مستمرًا وواقعيًا وملائمًا.
- وعلى كل فرد – مواطنًا كان أو معلّمًا، ولي أمر أو طالبًا – أن يُدرك بأن التواصل مسؤولية الجميع. علينا جميعًا أن نُجسّد خطابًا واضحًا وأخلاقيًا وشاملًا في بيوتنا، ومدارسنا، وأماكن عملنا، ومجتمعاتنا.
سواء كنت تشرح تغير المناخ لطفل، أو تدافع عن قضية بيئية في عملك، أو تنشر محتوى موثوقًا عبر الإنترنت، كل محادثة لها قيمة.
معًا، يمكننا سد الفجوة بين المعرفة والعمل، وبناء مستقبل لا تظل فيه المعرفة حبيسة العقول، بل تنطلق لتُلهم وتربط وتُحدث التحوّل المنشود.
بقلم الدكتور رافي تشاتيرجي، رئيس الأكاديميات ورئيس قسم الإدارة في سيمبيوسيس دبي، حائز على درجة الدكتوراه في المالية ولديه خبرة عميقة في البنوك ومخاطر الائتمان والتحليلات.