بينما تستعد المملكة العربية السعودية لاستضافة اثنتين من أضخم الفعاليات العالمية، معرض الرياض إكسبو 2030، وبطولة كأس العالم FIFA 34™، فإنها تواجه تساؤلات ملحة حول الموازنة بين الرؤية الطموحة، والمسؤولية البيئية، والاستعداد لمواجهة التحديات المستقبلية. هل يمكن لهذه الفعاليات أن تتماشى مع التزام المملكة العربية السعودية بخفض 60% من انبعاثات الكربون بحلول عام 2030، وتحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2060؟ كيف سيتم تقليل الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل للسفر الدولي والإقليمي؟ وفي ظل المناخ القاسي للمملكة، هل يُمكن تلبية الطلب المتزايد على الطاقة لأغراض التبريد والإضاءة بشكلٍ مستدام؟ هل سيتم الحفاظ بشكلٍ فعال على موارد المياه الشحيحة في المنطقة؟ وبالإضافة إلى هذه المخاوف الحالية، كيف يُمكن لهذه الفعاليات أن تساهم في تعزيز مهارة المرونة، لمواجهة تغير المناخ، وتطور معايير الاستدامة العالمية؟
يتحمل مسؤولية مواجهة هذه التحديات بشكل مباشر كل من الهيئة الملكية لمدينة الرياض (RCRC)، وشركاء المعرض العالمي إكسبو 2030، وأصحاب المصلحة في بطولة كأس العالم FIFA 34™، بما في ذلك الهيئات الملكية المشرفة على جدة، والخُبَر، وأبها، ونيوم، إضافة إلى الشركات حديثة العهد المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة (PIF) والتي تدير هذه الفعاليات. ولتوفير أفضل التجارب العالمية، وتقليل الأثر البيئي، يجب اتباع نهج شامل لدورة حياة المشروع، بوضع خطة مفصلة للتنفيذ، ومراقبة التقدم بانتظام، واتخاذ الإجراءات التصحيحية عند الحاجة، وصولاً إلى إتقان عملية إغلاق المشروع. ينبغي دمج مبدأ الإشراف البيئي بالجهود التعاونية في كل مرحلة، بدءًا من التصميم، مرورًا بالبناء والتشغيل، وصولًا إلى وضع خطط لضمان استمرارية واستدامة المشاريع الكبرى بعد اكتمالها. وهذا يعني أن الاختيار الدقيق لشركاء التنفيذ والتسليم سيكون عاملًا محوريًا في تحقيق النجاح.
علاوة على ذلك، يُعدّ التعاون المفتوح والشفاف مع المدن المجاورة والدول المحيطة أمرًا بالغ الأهمية، لتعزيز المسؤولية المشتركة، والمساءلة عن الالتزامات البيئية خلال هذه الفعاليات.
ولتحقيق الرؤى الطموحة لهذه الفعاليات البارزة، وضمان تردد صدى نجاحها مستقبلًا، يتطلب من أصحاب الخبرات في استراتيجيات الاستدامة، والكفاءة التشغيلية، والتكامل التكنولوجي الأكثر تطورًا، مشاركة تجاربهم العالمية مع الكوادر المحلية على أرض المملكة. تشكل هذه الخبرات أهمية قصوى في قطاع النقل، فهو من أضخم القطاعات التي ينتج عنها انبعاثات خلال كبرى الفعاليات؛ إذ من المرتقب أن يستقطب معرض الرياض إكسبو 2030 أكثر من 40 مليون زائر من 190 دولة، فضلًا عن استقطاب ملايين المشجعين حول العالم أثناء بطولة كأس العالم FIFA 34™، لذا من المتوقع أن ينتج عن السفر الجوي الدولي والإقليمي والتنقل المحلي، بصمة كربونية هائلة. لذا يجب اتخاذ تدابير فعالة لتخفيض البصمة الكربونية، لكيلا تعرقل جهود المملكة العربية السعودية في الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في قطاع النقل. يجب أن تشمل الحلول نشر أنظمة إدارة حركة المرور المدعومة بالذكاء الاصطناعي، القادرة على تقليل الازدحام والحد من الانبعاثات بنسبة تصل إلى 30%، من خلال التحليل الفوري والنمذجة التنبؤية.
من الممكن أن يرسي معرض إكسبو 2030 معيارًا جديدًا من خلال دمج أساطيل المركبات الكهربائية والمركبات ذاتية القيادة مع شبكات النقل العام المتطورة، مما يوفر بدائل منخفضة الانبعاثات للزوار. ستسهم أيضًا تطبيقات الملاحة الشخصية في الحد من الانبعاثات من خلال الترويج لخيارات التنقل المشترك، والحافلات الكهربائية، وخطوط السكك الحديدية عالية السرعة بين المواقع. ويمكن لبطولة كأس العالم FIFA 26™ أن تستفيد من هذه الأطر عبر استخدام مراكز نقل مستدامة، وتعزيز الترابط الإقليمي عبر أنظمة السكك الحديدية الكهربائية.
يشكل الطلب المتزايد على الطاقة وخاصة لأغراض التبريد والإضاءة تحديًا بالغ الأهمية، فمناخ الرياض القاسي يتطلب حلولًا فعالة ومستدامة. يعتزم المعرض العالمي إكسبو 2030 تنفيذ أنظمة لإدارة الطاقة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، قادرة على مراقبة استهلاك الطاقة وتحسينها بشكل ديناميكي، مع دمجها بالبنية التحتية المتنامية للهيدروجين الأخضر في المملكة العربية السعودية.
ستمثل كبرى المشروعات مثل “هيليوس” في نيوم، الذي يهدف إلى إنتاج نحو 600 طن من الهيدروجين الأخضر يوميًا بحلول عام 2026، دورًا محوريًا في تزويد الفعاليات بالطاقة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، مع أخذ احتياجات هذه الفعاليات الضخمة بعين الاعتبار منذ مراحل التصميم الأولية.
يمكن لبطولة كأس العالم FIFA 34™محاكاة هذه الأنظمة في ملاعبها والمناطق المخصصة للمشجعين، مما يضمن عمليات موفرة للطاقة تضع معيارًا عالميًا جديدًا. وعلى المدى الأبعد من الفعاليات، سيعزز هذا الاستثمار في أنظمة الطاقة الهيدروجينية، وأنظمة الطاقة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، من قدرة المملكة على التكيّف والصمود في مجال الطاقة بشكل عام، لتكون أكثر جاهزية لمستقبل يعظم أهمية حلول الطاقة المستدامة.
من أهم الأمور التي يجب تسليط الضوء عليها، هي ترشيد استهلاك المياه لمحدودية مواردها العذبة في الرياض؛ حيث تشهد استنزافًا متسارعًا، لذا تستلزم حلولًا متطورة لمواكبة الطلب المتزايد عليها بعيدًا عن المخزون الطبيعي. سيتعين على المعرض العالمي إكسبو 2030 دمج أنظمة الحلقة المغلقة لمعالجة وتحلية المياه وإعادة تدويرها، مع تقنيات كشف تسربات المياه المدعومة بالذكاء الاصطناعي، لتوفير ملايين اللترات من المياه الصالحة للشرب. ستضمن هذه الأنظمة كفاءة استخدام المياه أثناء الفعاليات الكبرى، مع المساهمة أيضًا في إنشاء نماذج قابلة للتطوير لإدارة المياه بشكل مستدام، لتتمكن المملكة من مواجهة تحديات الأمن المائي على المدى البعيد. وبالمثل، يجب أن تدمج مواقع بطولة كأس العالم FIFA 34™ تقنيات إعادة تدوير المياه الرمادية، والتصاميم الموفرة للمياه، لمواءمة الأهداف الوطنية للحفاظ على المياه وتعزيز قدرتها التشغيلية.
تُعد إدارة النفايات من أبرز المجالات احتضانًا للابتكار مع امتلاك المرونة الكافية. ففي هذه الفعاليات الضخمة من المتوقع حضور الملايين، مما سينتج عنهم ملايين الأطنان من النفايات، ولكن المملكة العربية السعودية قادرة على وضع معيار جديد في إدارة الموارد الدائرية التي تشكل جزءًا أساسيًا من مفهوم الاقتصاد الدائري، وتهدف إلى تحقيق الاستدامة عن طريق تقليل النفايات وزيادة كفاءة استخدام الموارد. وبالاستفادة من الإنجاز الذي حققه المعرض العالمي إكسبو 2020 دبي في تحويل 85% من النفايات بعيدًا عن مكبات النفايات، يهدف معرض الرياض إكسبو 2030 إلى تجاوز هذا المعيار من خلال أنظمة مراقبة النفايات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، واستخدام أنظمة التسميد في الموقع، وبرامج إعادة التدوير الشاملة. يُمكن لبطولة كأس العالم FIFA 34™ الاستفادة من استراتيجيات مماثلة لتحقيق نتائج استدامة موحدة. وبعيدًا عن التأثير الفوري والمباشر، يمكن دمج هذه الأنظمة في الإطار الحضري لمدينة الرياض، مما يوفر حلولًا طويلة الأمد للحد من النفايات واستعادة الموارد. إن راحة الزوار وإدارة الحشود من أهم الأمور لنجاح هذه الفعاليات الكبرى، ولتعزيز قدرة المناطق الحضرية على مواجهة مختلف التحديات.
تساهم تقنيات الذكاء الاصطناعي والرؤية الحاسوبية في تحسين إدارة الحشود، من خلال تحليل السلوك والحركة بشكل لحظي متجاوزة الاعتماد على المراقبة البشرية التقليدية، وتكمن قوتها في القدرة على الفهم والتحليل وليس فقد الرصد، مما يجعلها أداة استباقية فعالة لإدارة الحشود وضمان سلامتهم. تسهم عناصر التصميم الحضري، مثل الممرات المظللة، والمساحات الخضراء، وأنظمة الرّي الضبابي بالطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية، في توفير بيئات مريحة وسهلة التنقل سيرًا، مما يقلل الحاجة إلى وسائل النقل الآلية داخل مواقع الفعاليات.
من منظور تعزيز المرونة المستقبلية، ينبغي على الهيئة الملكية لمدينة الرياض، والشركة المسؤولة عن إدارة المعرض العالمي إكسبو 2030 المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة، وأصحاب المصلحة في بطولة كأس العالم FIFA 34™، إيلاء الأهمية القصوى لتطوير بنية تحتية مرنة وقابلة للتكيّف، إلى جانب وضع خطط لضمان استمرارية واستدامة المشاريع الكبرى بعد اكتمالها. وتتطلب المرحلة المقبلة توجيه الاستثمارات نحو الشبكات الذكية، ومصادر الطاقة المتجددة، وتقنيات ترشيد استهلاك المياه، مع تصميم هذه الحلول برؤية قابلة للتوسع، بما يواكب النمو السكاني والحضري المتسارع في الرياض لما بعد عامي 2030 و2034. إن إصدار تقارير الاستدامة الشاملة لتقديم معلومات حول الأداء في مجالات الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة بما يتماشى مع المعايير الدولية، سيسهم في تقديم نتائج قابلة للقياس، ويعزز ثقة المجتمع الدولي بدور المملكة الريادي في قيادة الجهود البيئية على مستوى العالم.
وفي نهاية المطاف، لا تُمثّل هذه الفعاليات مجرد فرصة لاستعراض قدرات المملكة العربية السعودية فحسب، بل تُعد منصات محورية لإظهار كيف يمكن لأمة أن توفّق بين الرؤية الطموحة والمسؤولية. تتركز أنظار العالم على المملكة في هذه اللحظة التي تواجه فيها المخاطر أكثر من أي وقت مضى. تشكّل هذه الفعاليات الضخمة اختبارًا جوهريًا لضرورة العمل المناخي باتخاذ إجراءات فورية، بما في ذلك التحول إلى الطاقة النظيفة، وتعزيز المرونة، وتعزيز التعاون الدولي، لمكافحة تغير المناخ والتخفيف من آثاره السلبية على البيئة والمجتمعات. ومن خلال دمج التكنولوجيا المتقدمة، ومصادر الطاقة المتجددة، ونماذج إدارة الموارد الدائرية، تمتلك المملكة الفرصة لإعادة تعريف مفهوم استضافة كبرى الفعاليات المستدامة، وبناء إرث من الابتكار والمرونة. وإذا كُتب لهذا النموذج النجاح، فلن يكون مجرد تحقيق لأهداف طموحة، بل سيكون نقطة تحوّل تُلهم العالم نحو مستقبل أكثر استدامة. ومع ذلك، يبقى السؤال الجوهري: هل ستكون الخطوات التي نتخذها اليوم جريئة بما يكفي لضمان تحقيق أهدافنا المناخية، بالالتزام طويل الأجل القابل للقياس، للحد من تغير المناخ، وترك أثر إيجابي يمتد للأجيال القادمة؟ فالإجابة على هذا السؤال لن ترسم ملامح مسار المملكة فحسب، بل ستحدد ملامح التوجه العالمي المشترك للوفاء بالالتزامات البيئية.
بقلم “إنجي جابر” مؤسسة شركة “كلايمتايز”، وشريك مُعاون لدى “+إمباكت”