في عصرٍ تطغى عليه أخبار الاستدامة المضللة، لم تعد المصداقية مجرّد “ميزة إضافية” أو رفاهية يمكن الاكتفاء بها، بل أصبحت ضرورة استراتيجية للبقاء والاستمرار، فقد شهد قطاع الطاقة في منطقة الشرق الأوسط تحوّلاً جذرياً من ناحية توقعات الجمهور؛ بدءاً من مطالبة جيل “زد” المعروف أيضاً بالجيل الرقمي بإثباتات وأدلّة ملموسة، إلى تشديد الرقابة من قبل الجهات التنظيمية، أصبحت الادّعاءات الغامضة والمزاعم المُبهمة حول الاستدامة أكثر ضرراً من الصمت. ورسالة أصحاب المصلحة واضحة هنا: لا تخبرونا بما تطمحون إليه أو تنوون فعله، بل أرونا ما أنجزتموه على أرض الواقع.
فجوةُ الثقة: تحدٍّ حقيقيٍّ ومتنامٍ
تُسلط الدراسات الحديثة الضوء على حجم هذا التحدّي، إذ لا يثق 88% من جيل “زد” في الولايات المتحدة إطلاقاً بالادعاءات المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات1. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، انتقد أكثر من 60% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ علني العلامات التجارية التي يُشتبه في تقديمها ادعاءات بيئية مضللة2. وعلى الصعيد العالمي، تظهر اتهامات التضليل البيئي في أزمة واحدة من كل خمس أزمات متعلقة بالعلامات التجارية3. وبالتالي، لم تعد هذه القضية مجرد مسألة هامشية، بل أصبحت تهديداً حقيقياً وخطراً متنامياً على السمعة المؤسّسية.
وتكمن المشكلة الأساسية في أن العديد من المؤسسات لا تزال تعتمد على سرديات برّاقة، وأهداف نظرية دون تأثير عملي، وفعاليات شكلية تركز على البُعد الإعلامي وليس النتائج الفعلية، بدلاً من تقديم أدلة ملموسة ومتسقة وقابلة للتحقّق. ففي عالمنا الرقمي الحالي المترابط بقوة، يمتلك أصحاب المصلحة الأدوات والإرادة للتحقّق من صحة كلّ ادعاء.
من الوعود إلى البراهين: بناء سرديات قابلة للقياس
لمواكبة هذا الواقع الجديد، يجب على العلامات التجارية في قطاع الطاقة الانتقال من التسويق الطموح إلى السرد القائم على الأدلة. وهذا يعني توحيد ومواءمة جميع جهود الاتصال مع إجراءات قابلة للقياس، والتحقق منها بشكل مستقل. وقد أظهرت أكثر الاستراتيجيات فعاليةً في المنطقة أنها تجمع باستمرار بين العناصر التالية:
الوضوح دون المساومة على دقّة المعنى: من الضروري تبسيط المفاهيم والمصطلحات التقنية دون المساس بمعناها. على سبيل المثال، بدلاً من استخدام مصطلح “التحليل الكهربائي للهيدروجين الأخضر”، يمكن القول “إنتاج الهيدروجين من الماء باستخدام الكهرباء النظيفة”.
أدلة قابلة للقياس والتحقّق الفوري: استبدل التقارير والتحديثات السنوية المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بلوحات معلومات تفاعلية، أو تقارير الحالة الشهرية، أو برامج التتبع المباشر للمشروعات. قم أيضاً بعرض انخفاضات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ووفورات المياه، أو عدد المنازل التي تم تزويدها بالطاقة، مع تحديثها بانتظام.
رسائل متوافقة مع السياق والثقافة المحلية: يجب مواءمة التقدم في مجال الاستدامة مع الرؤى والمبادرات الوطنية مثل “رؤية السعودية 2030” أو “استراتيجية الإمارات للطاقة 2050 “. كما أن استخدام الصور المحلية والمحتوى ثنائي اللغة يجعل هذه الادعاءات أكثر وضوحاً وفهماً لدى الجمهور المحلي.
السرد البصري القائم على الحقيقة: استخدم الصور والوسائل البصرية لتوضيح المفاهيم المعقدة، وتأكّد من أن تكون مدعومة ببيانات قابلة للتحقّق. على سبيل المثال، يُعدّ عرض تسلسل زمني لاستعادة أشجار المانغروف مدعوماً بمقاييس التنوع البيولوجي أكثر مصداقية من مجرد صورة عامة للغابة.
قصص تُركّز على الإنسان: اجعل الناس محور الرسالة. سواء كان يتعلق الأمر بمهندس يبتكر تقنيات الهيدروجين، أو مجتمع يستفيد من الطاقة الشمسية، فإن القصص الواقعية الأصيلة تخلق روابط عاطفية لا تستطيع الإحصاءات أن تحقّقها وحدها.
لماذا تحظى هذه المسألة باهتمام متزايد في الوقت الراهن؟
ترتفع المخاطر في منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير وتكتسب أهمية خاصة يوماً بعد يوم. فطموحات المنطقة في مجال الطاقة، بدءاً من مشروع نيوم في السعودية وصولاً إلى مشاريع الطاقة النووية والهيدروجين في الإمارات، تخضع لتدقيق عالمي متزايد. ومع مطالبة الجمهور المحلي والدولي بالشفافية، يتفاقم خطر تفاوت الإدراك والفهم العام بسبب سرعة انتشار وتداول الخطاب الرقمي. فأي خلل في التواصل بشأن الاستدامة قد ينعكس سلباً على مستويات الثقة، ليس تجاه مشروع محدّد فحسب، بل على سمعة الدولة في مجال المناح بشكل عام.
وفي المقابل، يمثّل هذا التدقيق فرصة مهمة، فالمؤسسات التي تدعم كل ادعاء بأدلة ملموسة، يمكنها إرساء معايير جديدة لأفضل الممارسات العالمية، وترسيخ مكانتها كمؤسسة رائدة على صعيد الابتكار والنزاهة.
دعوة للتحرّك والعمل الجاد
يجب على الشركات والمؤسسات العاملة في قطاع الطاقة التوقف عن التعامل مع عمليات الاتصال كأمرٍ ثانوي في استراتيجيات الاستدامة، فهو جزء لا يتجزأ منها. وينبغي أن تتحول كل منصة، بدءاً من المقالات الفكرية عبر منصة “لينكدإن” وصولاً إلى الشروحات المبسّطة على “تيك توك” إلى “محرّك للمصداقية والثقة” يبرهن على التقدم المُحرَز بأساليب تلقى صدى وقبولاً لدى الجمهور المستهدف.
وأخيراً وليس آخراً، في عصر التضليل البيئي لا مجال للشعارات والعبارات الطنانة. ولبناء الثقة المستدامة، ينبغي أن يكون سردك قابلاً للقياس بقدر قابلية إنجازاتك الهندسية للقياس. باختصار؛ توقّف عن إطلاق الوعود، وابدأ بتقديم الأدلة الملموسة.
بقلم: كيت ميدتون، المؤسِّس والرئيس التنفيذي لشركة أكورن ستراتيجي.