لم تعد موجات الحر قضية بيئية بعيدة، بل أصبحت واحدة من أخطر التهديدات المباشرة لصحة الإنسان والعمل والاقتصاد على مستوى العالم. ووفقاً لتقارير حديثة صادرة عن وكالات الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية (ILO)، فإن الإجهاد الحراري – أي التعرض لدرجات حرارة تتجاوز قدرة الجسم على التحمّل – بلغ مستويات مقلقة بفعل تغيّر المناخ وتكرار موجات الحر الشديدة. من حقول الزراعة في جنوب آسيا إلى مواقع البناء في إفريقيا، يقف ملايين العمال في الصفوف الأمامية لأزمة تعيد تشكيل عالم العمل.
ما هو الإجهاد الحراري؟
تعرّف منظمة العمل الدولية الإجهاد الحراري بأنه الوضع الذي تتجاوز فيه درجات الحرارة قدرة الجسم البشري على التحمّل دون التعرّض لمخاطر صحية أو نفسية. ويحدث هذا عادة عند تجاوز 35°م في مناخ رطب، حيث يفقد الجسم قدرته على التبريد الطبيعي. في هذه الظروف يصبح العمل مرهقاً وخطيراً، وقد يؤدي إلى الجفاف، واضطرابات الكلى والجهاز العصبي، أو حتى ضربة شمس قد تكون قاتلة. “الإجهاد الحراري يضر بالفعل بصحة وسبل عيش مليارات العمال، وخاصة في المجتمعات الأكثر ضعفاً”، قال الدكتور جيريمي فارار، مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لتعزيز الصحة والوقاية والرعاية. تحذيره يؤكد أن القضية ليست صحية فقط، بل اجتماعية واقتصادية أيضاً.
تحدٍ عالمي
حجم المشكلة هائل. بين عامي 2000 و2019، تسببت الحرارة الشديدة في نحو 489 ألف وفاة سنوياً، بحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO). قرابة نصف هذه الوفيات حدثت في آسيا، وأكثر من ثلثها في أوروبا. أما الفئات الأكثر هشاشة – من أطفال وكبار سن وعمال منخفضي الدخل – فهي الأكثر عرضة للخطر. ولم تعد التأثيرات مقتصرة على المناطق الحارة تقليدياً. “لقد أصبح الإجهاد الحراري تحدياً مجتمعياً عالمياً، ولم يعد مقتصراً على الدول القريبة من خط الاستواء، كما أبرزته موجات الحر الأخيرة في أوروبا”، بحسب كو باريت، نائب الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد. ففي عام 2024 سُجّلت أعلى درجة حرارة عالمية على الإطلاق بزيادة 1.55°م عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية. وأصبحت درجات الحرارة فوق 40°م أمراً شائعاً، وتجاوزت في بعض المناطق 50°م.
خسائر الإنتاجية
بعيداً عن الصحة، يلتهم الحر تدريجياً إنتاجية العمل. في تقرير عام 2019، توقعت منظمة العمل الدولية أن تضيع 2.2% من إجمالي ساعات العمل العالمية سنوياً بحلول 2030 بسبب ارتفاع الحرارة، أي ما يعادل 80 مليون وظيفة بدوام كامل، وبخسائر اقتصادية تُقدّر بـ 2.4 تريليون دولار سنوياً. وسيشهد قطاع الزراعة – الذي يعمل فيه 940 مليون شخص حول العالم – الخسارة الأكبر، إذ سيتحمل 60% من ساعات العمل المفقودة، يليه قطاع البناء بنسبة 19%. أما القطاعات الأخرى المعرضة للخطر فتشمل الخدمات البيئية، وجمع النفايات، والطوارئ، والنقل، والسياحة، والرياضة، والصناعات الثقيلة. هذه الخسائر لا تعني فقط ساعات عمل ضائعة، بل تراجعاً في الدخل، وتفاقماً للفقر وعدم المساواة، خاصة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل. كما قال باريت: “حماية العمال من الحر الشديد ليست مجرد ضرورة صحية، بل أيضاً ضرورة اقتصادية.”
تفاوت إقليمي
لن تتوزع الأضرار بالتساوي بين الدول. فمنطقة جنوب آسيا وغرب إفريقيا مرشحتان لخسارة 5% من إجمالي ساعات العمل بحلول 2030، أي ما يعادل 43 مليون و9 ملايين وظيفة على التوالي. وتتميز هذه المناطق أيضاً بارتفاع معدلات الفقر وضعف القدرات على التكيّف مع الحرارة. كما يختلف تأثير الأزمة بين النساء والرجال. ملايين النساء العاملات في الزراعة المعاشية مهددات بفقدان مصدر رزقهن، بينما يواجه الرجال العاملون في البناء مخاطر متزايدة. ومع تفاقم الفقر، قد تضطر عائلات كثيرة إلى الهجرة من الريف إلى المدن أو خارج حدودها بحثاً عن فرص أكثر أماناً. وتحذر منظمة العمل الدولية من أن هذه الاتجاهات ستعمّق الفوارق الاجتماعية، خاصة مع انتشار العمل غير المنظم وضعف الحماية الاجتماعية.
آسيا: حرارة تتضاعف مرتين أسرع من المعدل العالمي
تشير بيانات حديثة إلى أن آسيا ترتفع حرارتها بمعدل ضعف المتوسط العالمي، ما يضاعف من شدة الظواهر المناخية. ففي 2024 سجلت الصين أرقاماً قياسية شهرية متتالية، بينما أثّر الجفاف الصيفي على أكثر من 4.76 مليون شخص وأتلف مئات آلاف الهكتارات من المحاصيل. في المقابل، تسببت الأمطار الغزيرة وذوبان الجليد في كازاخستان بأسوأ فيضانات منذ 70 عاماً. أما نيبال، فرغم نجاحها في تركيب أنظمة إنذار مبكر للفيضانات، فقد شهدت انهيارات أرضية وسيولاً أودت بحياة 246 شخصاً. وقال راميش كاركي، عمدة إحدى البلديات المتضررة: “هذه أسوأ فيضانات منذ 65 عاماً. لم نفقد أرواحاً بفضل الاستعداد، لكن الأضرار كانت واسعة.”
المدن في الخط الأمامي
المناطق الحضرية أكثر عرضة بسبب ما يُعرف بـ “تأثير الجزر الحرارية الحضرية”، حيث تحبس المباني الكثيفة الحرارة، لترتفع درجات الحرارة أكثر من المناطق الريفية. وأكدت المنظمة العالمية للأرصاد أن الآثار الصحية في المدن أشد قسوة، مع تزايد التلوث وسوء السكن. في يوليو 2025 شهدت السويد وفنلندا موجات حر طويلة غير مسبوقة، بينما سجلت تركيا درجة قياسية بلغت 50.5°م. وفي آسيا وشمال إفريقيا تجاوزت الحرارة 45°م بشكل متكرر. وتفاقمت الأزمات مع اندلاع حرائق الغابات وتدهور جودة الهواء، مما تسبب في انهيار شبكات المياه والكهرباء في العراق وإيران، وإجلاء آلاف السكان في اليونان وقبرص والولايات المتحدة. وفي كندا، أحرقت الحرائق 6.6 مليون هكتار، وأدى الدخان إلى تلوث أجواء أوروبا.
التكلفة البشرية والاجتماعية
لا تُقاس آثار الإجهاد الحراري بالوظائف المفقودة أو الأرقام الاقتصادية فقط، بل أيضاً بالأرواح. فبحسب منظمة الصحة العالمية، سيسبب تغيّر المناخ ما يقارب 250 ألف وفاة إضافية سنوياً بين 2030 و2050 نتيجة سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري. وأشارت دراسة نشرتها مجلة ذا لانسيت إلى أن التعرض للحرارة أدى في عام 2021 وحده إلى خسارة 470 مليار ساعة عمل محتملة عالمياً، ما أثر بشكل غير متناسب على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وفاقم أزمة تكلفة المعيشة. النتائج الاجتماعية عميقة أيضاً. مع تزايد فقدان مصادر الدخل الزراعي، تزداد الهجرة من الريف إلى المدن أو عبر الحدود، مما يضغط على البنى التحتية. كما يهدد الإجهاد الحراري النساء الحوامل والأطفال وكبار السن بشكل خاص، ما يزيد من الفجوات الصحية.
الطريق إلى الأمام
رغم ضخامة التحديات، تؤكد الوكالات الأممية أن الحلول موجودة. فقد دعت منظمة الصحة العالمية وWMO إلى خطط عاجلة للتعامل مع الإجهاد الحراري في بيئات العمل. وتشمل التوصيات: تطوير سياسات صحية مهنية تستند إلى أوضاع الطقس المحلية والهشاشة السكانية؛ تدريب الأطباء وأصحاب العمل والعمال على التعرف على أعراض الإجهاد الحراري وعلاجه؛ حماية الفئات الأكثر عرضة: العمال كبار السن، المصابون بأمراض مزمنة، وضعيفو اللياقة البدنية؛ تعزيز أنظمة الإنذار المبكر خاصة في المناطق المعرضة؛ والاستثمار في حلول عملية ومستدامة مثل مراكز التبريد والملابس الواقية وتصميم أماكن عمل أفضل. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن توسيع أنظمة التحذير الصحية في 57 دولة فقط قد ينقذ نحو 100 ألف حياة سنوياً.
دعوة للتحرك
“يمثل هذا التقرير محطة أساسية في استجابتنا الجماعية لتهديد موجات الحر المتزايدة في عالم العمل”، قال خواكيم بينتادو نونيس، رئيس قسم السلامة والصحة المهنية في منظمة العمل الدولية. وأضاف أن هذه التوصيات تنسجم مع تفويض المنظمة لضمان بيئة عمل آمنة وصحية كحق أساسي. أما جوي شوميكي-غيومو، قائدة برنامج المناخ والصحة المشترك بين منظمة الصحة العالمية وWMO، فقالت: “هذه ليست مجرد قضية مناخية، بل حالة طوارئ صحية عامة.” ومع استمرار ارتفاع حرارة الكوكب، يبقى التحرك المنسق ضرورة لا خياراً. فحماية العمال من الحرارة تعني إنقاذ الأرواح وحماية الاقتصادات وضمان مستقبل عمل لائق للأجيال القادمة.