لم تعد الاستدامة خياراً أو طموحاً إضافياً للشركات، بل أصبحت مطلباً تنظيمياً واستراتيجياً واضحاً. ومع دخول متطلبات الإفصاح البيئي والاجتماعي والحوكمة (ESG) حيّز التنفيذ الإلزامي للشركات المدرجة في أسواق الإمارات، تواجه المؤسسات في المنطقة تحدياً وفرصة في آن واحد: كيف يمكن تحقيق النمو الاقتصادي مع الحفاظ على المسؤولية البيئية؟
في هذا الإطار، تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً. ويبرز في هذا السياق التكامل بين تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) وإنترنت الأشياء (IoT)، والذي يُحدث ثورة في طريقة عمل المؤسسات، حيث يُمكّنها من دمج مبادئ الاستدامة في جوهر عملياتها، مع تعزيز الكفاءة والابتكار والقدرة التنافسية.
تُشكّل تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء معاً أساساً قوياً لتحقيق أهداف الاستدامة على نطاق واسع. فمن خلال ربط الأصول المادية، وجمع البيانات في الوقت الحقيقي، وتطبيق التحليلات الذكية، تستطيع المؤسسات اتخاذ قرارات مدروسة تقلل من الأثر البيئي، دون التأثير على الأداء التشغيلي.
تحويل البيانات إلى قرارات فاعلة
يربط إنترنت الأشياء الأصول الفيزيائية — من أجهزة الاستشعار في المصانع إلى العدادات الذكية في المنازل — ما يُولّد كميات ضخمة من البيانات اللحظية. ولكن جمع البيانات وحده لا يكفي. يُضيف الذكاء الاصطناعي طبقة ضرورية من الذكاء التحليلي، حيث يقوم بتحليل المعلومات، واكتشاف الأنماط، وتقديم التوصيات لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
هذا التكامل القوي يُتيح للمؤسسات تحسين استهلاك الطاقة، وتقليل الفاقد، وتحسين كفاءة الموارد على نطاق واسع.
فعلى سبيل المثال، يُمكن للمدن والمباني الذكية خفض استهلاك الطاقة من خلال تحليل أنماط الإشغال، وتوقعات الطقس، وأداء أنظمة التكييف والإضاءة. وتُعدّل هذه الأنظمة بشكل تلقائي، ما يُسهم في تقليل الهدر والانبعاثات الكربونية بشكل ملحوظ.
كذلك، يُتيح الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء مراقبة استهلاك المياه في الوقت الفعلي، والكشف الفوري عن التسريبات، وتحسين أنظمة الري، ما يقلل من الفاقد — وهو أمر بالغ الأهمية في منطقة تعاني من ندرة الموارد المائية.
تحسين استخدام الموارد: المزيد بموارد أقل
في صميم مفهوم الاستدامة، تكمن القدرة على إدارة الموارد بكفاءة. تراقب الأجهزة المتصلة بالإنترنت باستمرار استهلاك الطاقة، واستخدام المياه، وتوليد النفايات في المرافق وخطوط الإنتاج والبنى التحتية. وعند دمجها مع تحليلات الذكاء الاصطناعي، تُصبح هذه البيانات أداة قوية للتحسين الاستباقي.
تُساهم الخوارزميات الذكية في اكتشاف مصادر الهدر، والتنبؤ بفترات ذروة الاستهلاك، وتعديل الأنظمة تلقائياً. والنتيجة هي خفض تكاليف الطاقة، والحد من الانبعاثات، وتقليل الأثر البيئي، مع الحفاظ على موثوقية العمليات التشغيلية.
بناء مدن ذكية ودائرية
تُشكّل وتيرة التحضر المتسارعة تحديات بيئية كبيرة، مثل الازدحام المروري، وارتفاع الطلب على الطاقة. توفر تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء حلولاً مبتكرة لبناء مدن أكثر ذكاءً واستدامة.
يمكن لأنظمة إدارة المرور الذكية، المدعومة بهذه التقنيات، تقليل الازدحام من خلال تحليل حركة المرور في الوقت الفعلي، وضبط أنماط الإشارات بما يضمن انسيابية الحركة. كما يمكن تحسين كفاءة وسائل النقل العام باستخدام البيانات اللحظية، ما يُعزز من اعتماد المواطنين على وسائل نقل أكثر استدامة.
إضافة إلى ذلك، تدعم تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء مفهوم المدن الدائرية، حيث يُعاد استخدام الموارد وتُقلل النفايات. فمن خلال تتبع تدفقات النفايات والمواد، يمكن تحسين عمليات إعادة التدوير، وتقليل الاعتماد على مكبّات النفايات، وزيادة معدل استرجاع الموارد.
دمج الطاقة المتجددة
تتطلّب أهداف الإمارات الطموحة في مجال الطاقة النظيفة، مثل دمج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بنية تحتية ذكية تضمن الكفاءة والموثوقية. وهنا، تلعب تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء دوراً محورياً في تحسين أداء مصادر الطاقة المتجددة.
تُراقب الشبكات الذكية، المزودة بأجهزة استشعار متصلة، إنتاج الطاقة وأنماط الاستهلاك لحظياً. وتُساعد نماذج الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالطلب، وتعديل الإمدادات، ودمج مصادر الطاقة المتجددة بسلاسة في الشبكة الكهربائية. الأمر الذي يُعزّز موثوقية الطاقة ويُقلّل الاعتماد على الوقود الأحفوري، دعماً لأجندة خفض الانبعاثات الكربونية.
كما تُساهم الصيانة التنبؤية، المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، في إطالة عمر أصول الطاقة المتجددة، وتقليل الأعطال، والهدر في الموارد.
سلاسل إمداد أكثر استدامة
لا تقتصر الاستدامة على العمليات الداخلية فحسب، بل تمتد إلى سلاسل الإمداد بالكامل. ومع الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، تحظى المؤسسات برؤية غير مسبوقة لحركة المنتجات، والظروف البيئية، واستخدام الموارد.
تُتابع الأجهزة المتصلة مسار البضائع عبر سلسلة الإمداد، مع توفير بيانات لحظية حول الموقع، ودرجة الحرارة، والحالة العامة للمنتجات. وتُحلل تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه البيانات لتحسين مسارات النقل، وخفض استهلاك الوقود، والحد من التلف أو الخسائر، ما يؤدي إلى سلسلة إمداد أكثر كفاءة واستدامة — وهو مطلب أساسي للمؤسسات الساعية للامتثال لمعايير ESG.
أولوية استراتيجية للمستقبل
لم تعد الاستدامة مرتبطة بالامتثال التنظيمي فقط، بل أصبحت مرتبطة بقدرة المؤسسات على التكيّف والصمود والنمو في المستقبل. تُوفّر تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء الأدوات اللازمة لتحويل الاستدامة إلى واقع عملي، وقابل للقياس، وقابل للتوسّع.
بالنسبة للشركات في الإمارات ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُعدّ تبنّي هذه التقنيات خطوة ضرورية لتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والمسؤولية البيئية. ومع تطوّر متطلبات الإفصاح البيئي والاجتماعي والحوكمة، وارتفاع توقعات الأسواق العالمية، تُشكّل تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء الطريق الأمثل لتحقيق التميّز التشغيلي، وتحقيق تأثير ملموس في مجال الاستدامة.
بقلم: نصري ناصر الدين، نائب الرئيس الإقليمي بـ” كوميولوسيتي”