يُعد شُحّ المياه من أكبر التحديات التي تواجه عالمنا اليوم، إذ تستهلك الزراعة وحدها ما يقرب من 70% من موارد المياه العذبة على مستوى العالم، فيما تشير تقديرات البنك الدولي أنه بحلول عام 2030، ستتجاوز نسبة الطلب على المياه كم الموارد المتوفرة منها بنسبة 40%. وتبرز هذه الأزمة بوضوح في المناطق الجافة وشبه الجافة، التي لطالما كان تأمين الموارد الغذائية لسكانها مهمة دقيقة تتطلب توازناً مدروساً بين عناصر المناخ والتربة والمياه.
وتعتبر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق اعتماداً على الاستيراد لتلبية احتياجاتها الغذائية، إذ تستورد ما بين 85% و90% من غذائها. هذا الاعتماد الكبير يجعلها عرضة للتقلبات في سلاسل التوريد العالمية، سواء بسبب التوترات الجيوسياسية أو الاضطرابات المناخية. في المقابل، تعتمد الزراعة المحلية في كثير من هذه الدول على تقنيات تستهلك كميات كبيرة من المياه يصعب الحفاظ عليها في بيئة صحراوية قاسية. والنتيجة هي حلقة متكررة: أمن غذائي مرهون بالخارج، وأمن مائي مثقل بتحديات الإنتاج المحلي.
مع تسارع وتيرة التغير المناخي، بات هذا التوازن أكثر هشاشة من أي وقت مضى. فارتفاع درجات الحرارة، وتملّح المياه الجوفية، وتغير أنماط هطول الأمطار، كلها عوامل تزيد من الضغوط على أساليب الزراعة التقليدية. فالمحاصيل التي كانت تنمو بسهولة في الماضي قد لا تعود قابلة للحياة في الظروف الحالية، ما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين العرض والطلب على مستوى الغذاء.
ولمواجهة هذا التحدي، لا بد من إعادة التفكير في أساليب إنتاج الغذاء. فالاكتفاء بالتحسينات التدريجية في كفاءة الاستخدام لن يكون كافياً. يجب أن تصبح الزراعة أكثر ذكاءً في استخدام المياه، من خلال إنتاج كميات أكبر من الغذاء باستخدام كميات أقل من المياه، وبالقرب من مناطق الاستهلاك، وبطرق أكثر قدرة على التكيّف مع التغيرات المناخية.
تشكل تقنيات مثل الزراعة المائية، والزراعة العمودية والزراعة الضبابية (fogponics) جزءاً محورياً من هذا التحوّل، إذ تتيح جميعها إنتاج الغذاء دون الاعتماد على التربة أو مياه الأمطار. وقد أثبتت الزراعة المائية بالفعل قدرة النباتات على النمو في محاليل مائية غنية بالمغذيات. أما الزراعة الضبابية، فتُعد امتداداً لهذا المفهوم، إذ توفر العناصر الغذائية على شكل رذاذ دقيق، مما يمكّن الجذور من امتصاص المياه والمعادن بكفاءة أعلى، ويقلّل من استهلاك المياه بشكل كبير. وتستهلك هذه التقنية كميات مياه أقل بنسبة 98% مقارنة بالزراعة التقليدية في الحقول، كما تتيح الزراعة في أماكن تعاني من ندرة أو رداءة التربة. وقد تم اختبار هذا الأسلوب لأول مرة في أبحاث الفضاء، حين اضطر العلماء إلى ابتكار حلول لزراعة الغذاء في بيئات لا تحتوي على تربة أو مياه جارية. واليوم، تثبت هذه المبادئ فائدتها على الأرض، لا سيّما في المناطق التي تجعل ندرة المياه من الزراعة التقليدية خياراً غير قابل للاستدامة.
ولا يقتصر الأمر على الجانب العلمي فحسب، بل يتعلق بالقدرة على مواجهة التحديات وتحقيق السيادة الغذائية. فعندما تتمكن المجتمعات من إنتاج جزء ولو بسيط من غذائها محلياً، فإنها تقلل اعتمادها على الواردات وتحمي نفسها من أزمات سلاسل الإمداد. وعندما يصبح بإمكان المزارعين زراعة محاصيلهم باستخدام كميات أقل من المياه، فإنهم يحافظون على سبل عيشهم في مناطق كان من الممكن أن تنهار فيها الزراعة بالكامل. وبالنسبة للمناطق الجافة وشبه الجافة على وجه الخصوص، تُثبت تقنيات مثل الزراعة الضبابية والزراعة المائية أن إنتاج الغذاء يمكن أن يتكيف مع الواقع عندما تكون المياه والتربة الخصبة عملتين نادرتين.
ويلعب صانعو السياسات دوراً محورياً في تهيئة البيئة اللازمة لهذا التحوّل. فتعزيز الاستثمار في مجالات البحث والتطوير، ودعم المشاريع التجريبية، وبناء شراكات تجمع بين الحكومات والجامعات والمبتكرين، جميعها خطوات يمكن أن تُسرّع من اعتماد أنظمة زراعية أكثر كفاءة في استخدام المياه. وفي دولة الإمارات، يُمثّل “صندوق محمد بن راشد للابتكار” نموذجاً يقتدى به في كيفية توجيه الدعم نحو حلول تواكب التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي والمائي. ومن خلال توفير مساحة للتجربة والتوسع، تُسهم مثل هذه المبادرات في تحويل القطاع الزراعي نحو نماذج أكثر قدرة على مواجهة الضغوط المناخية.
ولم يعد هناك مجال للتهاون في المرحلة الراهنة؛ فبينما يتصاعد الطلب العالمي على الغذاء بوتيرة متسارعة، تزداد ندرة المياه لتغدو من أبرز سمات القرن الحادي والعشرين. وفي هذا السياق، تقف المناطق التي تعاني بالفعل من هذه الضغوط عند مفترق طرق: فإما أن تكون الأكثر عرضة للتأثر، أو الأكثر قدرةً على الابتكار. وإذا ما أُعيد النظر في أساليب الزراعة اليوم، فبإمكان هذه المناطق أن تتصدر الجهود العالمية لبناء أنظمة غذائية مرنة، مستدامة، وقادرة على التكيّف مع الواقع المناخي المتغيّر.
ختاماً، فإن مستقبل الزراعة لن يُحسم في الحقول الخصبة وحدها، بل سيتشكل أيضاً في المناطق الصحراوية، والمدن، والمختبرات. وتمتلك منطقة الشرق الأوسط فرصة فريدة لتكون في الطليعة على مستوى تطوير نماذج زراعية مرنة وذكية مناخياً. وعلى الرغم من قلة موارد المياه، تبقى الحلول الفعالة موجودة. وما نحتاج إليه الآن هو الرؤية، والاستثمار، والإرادة الجماعية لتحويل هذه الحلول إلى نظم قابلة للتوسع تضمن أمن الغذاء والمياه للأجيال القادمة.
بقلم: ألبيرتو أغويلار، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “بلانتافورم تكنولوجي”