لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في قطاع الطاقة مجرد ترف تكنولوجي أو خطط مستقبلية. فبحسب وكالة الطاقة الدولية (IEA) في تقريرها World Energy Investment 2025، من المتوقع أن يصل الاستثمار العالمي في الطاقة إلى نحو 3.3 تريليون دولار هذا العام، منها 2.2 تريليون مخصصة للتقنيات النظيفة مثل الطاقة المتجددة والتخزين والشبكات الذكية وكفاءة الطاقة. هذه الأرقام تكشف عن تحول تاريخي: الكهرباء النظيفة باتت المسار الرئيسي عالميًا. ومع ذلك، يحذّر التقرير نفسه من فجوة مقلقة في تمويل الشبكات الكهربائية، حيث لا يتجاوز الإنفاق الحالي 400 مليار دولار سنوياً، وهو أقل بكثير من المستوى المطلوب لمواكبة الطفرة في التوليد النظيف واستيعاب مصادر الطاقة المتجددة المتزايدة .[1]
يشهد قطاع الطاقة عالمياً قفزة نوعية في التحول الرقمي، تقودها تطبيقات الذكاء الاصطناعي (AI)، وانتشار العدادات الذكية، ومنصات إدارة الشبكات، وحلول التخزين. على سبيل المثال اصبح القرار التشغيلي في محطات التوليد، والشبكات، والتوزيع يعتمد على البيانات الضخمة والنماذج التنبؤية أكثر من أي وقت مضى. بالاصافة لذلك يتجلى أثر واستخدام الذكاء الاصطناعي حالياً بما يلي:
- التنبؤ بالأحمال والحمل الاقصى بدقة ، بما يقلل تشغيل وحدات الذروة المكلفة ويحسن جدولة الصيانة.
- الصيانة التنبؤية لمحوّلات ومحطات ومحولات القدرة (HV/MV)، باستخدام نماذج تكتشف الثغرات قبل وقوع الأعطال.
- دمج أعلى لمصادر الطاقة المتجددة عبر تنبؤات إنتاج الرياح والشمس قصيرة الأجل، مع تحسين تشغيل التخزين للتقليل من حالات التذبذب في الانتاج.
- إدارة الشبكات الذكية والاحمال بالشكل الامثل وتقليل المفاقيد الكهربائية وتعزيز مدى رضى العملاء ومتلقي الخدمة، بالاضافة الى تعزيز انظمة قراءة العدادات عن بعد واصدار الفواتير اللحظية.
- تحسين تشغيل محطات الشحن للسيارات الكهربائية من خلال إدارة ذكية لأحمال الشحن وتوزيعها عبر الشبكة، وتجنب الأحمال الزائدة في أوقات الذروة.
- مراقبة الأسواق واكتشاف السلوكيات غير التنافسية مبكرا وتعزيز الشفافية والتنافسية.
أبرز الأرقام والتوجهات العالمية (2024–2025)
مع نهاية 2024، وصلت القدرة العالمية المركبة من الطاقة المتجددة إلى 4,448 جيجاواط، بزيادة قياسية في الطاقة الشمسية والرياح. وفي قطاع النقل، يتوقع أن تصل مبيعات المركبات الكهربائية القابلة للشحن في 2025 إلى 22 مليون مركبة، ما يزيد الضغط على الشبكات ويستدعي حلول شحن ذكية ومتطورة. إقليميا، تتحرك دول الشرق الأوسط بخطوات متسارعة لدمج التخزين وتطوير البنية التحتية للشحن الكهربائي، مع تخصيص مساحات واسعة في المعارض والمؤتمرات الدولية لابتكارات البطاريات وحلول الشبكات المرنة.
- الاستثمار العالمي في الطاقة يتجه إلى 3.3 تريليون دولار في 2025؛ منها2.2 تريليون للتقنيات النظيفة (متجددة، نووي، تخزين، شبكات، كفاءة)، أي ضعفا ما يُنفق على الوقود الأحفوري. النقص الأبرز عالميا هو الاستثمار في الشبكات 400 مليار دولار/سنة مقارنة بسرعة نمو التوليد، ما يهدد اداراة شبكات الطاقة بالشكل الامثل ويأثر على مدى الاستفادة من الطاقة المتجددة إذا لم تسد هذه الفجوة قبل أوائل 20230 .[1]
- الطاقة المتجددة عالميا بلغت في نهاية 2024 ما مجموعه 4,448جيجاواط والتي شكلت 46% من الاستطاعة التوليدية للطاقة الكهربائية وكان منها 1,865 GWطاقة شمسية و 1,133 GWطاقة رياح .[2]
- السيارات الكهربائية: تتوقع BNEF بيع نحو 22 مليون مركبة كهربائية قابلة للشحن في 2025 ( بزيادة 25% عن 2024). الصين تمثل قرابة 66%، ثم أوروبا (17%)، فالولايات المتحدة (7%). هذا النمو يضغط على الشبكات محليا ويتطلب تسريع البنية التحتية للشحن والإدارة الذكية للأحمال.[3]
التحدي السيبراني في الشبكات الكهربائية الذكية
وحيث انه كلما ازدادت رقمنة الشبكات كلما ارتفعت حدة الهجوم السيبراني، حيث شهدت الشركات العاملة في قطاع المرافق (كالطاقة والماء) خلال 2024 ارتفاعا ملحوظا بنسبة 70% في الهجمات السيبرانية مقارنة بنفس الفترة في 2023. وكما أعلنت منظم الطاقة الأمريكي NERC أن عدد النقاط الضعيفة سبرانياً وامنياً (البرمجية أو المادية) في الشبكة الكهربائية زاد إلى 23,000 – 24,000 نقطة في عام 2023، بزيادة عن 21,000 – 22,000 نقطة في عام 2022؛ وهو ما يمثل تحديا فعليا لمواجهة التهديدات السيبرانية المتزايدة [5,4].
وبناءاً على ذلك، فإن أوروبا نشرت في 2024 أول Network Code on Cybersecurity الخاص بقطاع الكهرباء لتوحيد منهجية إدارة المخاطر ومقاييس المرونة عبر الشبكات المترابطة، بالتوازي مع توصيات ENTSO-E بعد حادثة اختراق تم على الشبكة في يونيو 2024 بجنوب شرق أوروبا. هذه التطورات تظهر أن أمن الشبكات لم يعد شأنا محليا بل عابرا للحدود.[6] على مستوى المعايير، تشكّل IEC 62351المرجع العالمي لتأمين بروتوكولات التحكم وأنظمة التشغيل في القطاع الكهربائي. وهنا يبرز التحدي مزدوج ما بين حماية البنية التحتية من الاختراق، وضمان استمرار التشغيل حتى في حال تعرض جزء من الشبكة لهجوم.
سوق العمل في قطاع الشبكات الكهربائية… مهن جديدة ومهارات مختلفة
يتغير المشهد الوظيفي في قطاع الطاقة بوتيرة غير مسبوقة حيث يبرز حالياً أن المطلوب اليوم ليس فقط مهندسين وفنيين، بل أيضا خبراء في تحليل البيانات، ومتخصصين في أمن نظم التحكم ، ومهندسين يجيدون مفاهيم ومتطلبات الشبكات الذكية .
وفقًا لتقرير IMARC Group، بلغ حجم سوق الشبكات الذكية العالمي 73.3 مليار دولار في 2024، ومن المتوقع أن يقفز إلى 269.5 مليار دولار بحلول 2033، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 15.6% [7] . أما سوق التحليلات الذكية للشبكات، فقد ارتفع من 7.5 مليار دولار في 2022 إلى 8.1 مليار دولار في 2024، مع توقعات بأن يصل إلى 13.5 مليار دولار بحلول 2034[8] . الأمن السيبراني أيضًا أصبح محورا رئيسيا في هذا التحول؛ إذ بلغ حجم سوق الأمن السيبراني للشبكات الذكية 7.99 مليار دولار في 2024، ومن المتوقع أن يتضاعف تقريبا إلى 19.06 مليار دولار بحلول 2032 [9] . وتواكب ذلك قفزة كبيرة في سوق تقنيات Edge AI للشبكات، المتوقع أن يصل من 18.9 مليار دولار في 2025 إلى 141.4 مليار دولار في 2034، بمعدل نمو 25.1% سنويا .[10]
وبالتالي تعكس هذه الأرقام الضخمة تعكس طلبا متزايدا على تخصصات جديدة، تتجاوز المفهوم التقليدي لمهندس أو فني الكهرباء ويخلق فرصا مهنية غير مسبوقة ويعيد رسم خارطة الوظائف المطلوبة في السنوات المقبلة والتي تتركز بضرورة وجود:
- خبراء في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لتشغيل أنظمة التنبؤ بالأحمال وتحسين أداء الشبكات.
- متخصصين في الأمن السيبراني لحماية أنظمة التحكم الصناعية وشبكات SCADA من التهديدات الرقمية.
- مهندسين يجيدون تقنيات الشبكات الذكية، من العدادات الذكية إلى إدارة مرونة الطلب.
- خبراء في تكامل أنظمة التخزين والشحن الكهربائي وربطها بمصادر الطاقة المتجددة.
- خبراء بالسيارات الكهربائية والشواحن وادارة الطلب والربط مع الشبكات.
ولكي تواكب الجامعات هذا الواقع، يجب أن تتبنى برامج تعليمية تدمج المهارات التقنية الحديثة ضمن مناهجها من خلال مختبرات رقمية، وتدريبات على الاستجابة للحوادث السيبرانية، ومحاكاة تشغيل الشبكات الحديثة. الجامعات العربية إذا أرادت تخريج كوادر قادرة على المنافسة عالميا، فعليها أن تبني بيئات تعليمية تحاكي الواقع الصناعي، وتدمج مفاهيم الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، وإدارة الطاقة الذكية في قلب العملية التعليمية. في النهاية، التحول الحالي في الشبكات الكهربائية لا يقتصر على التكنولوجيا، بل يشمل إعادة صياغة المشهد الوظيفي بالكامل. ومن يواكب هذا التحول من اليوم، سواء كان فردا أو مؤسسة تعليمية، سيجد مكانه في صدارة قطاع طاقة أكثر ذكاء وأمانا واستدامة.
بقلم: الدكتور فراس العســــلي، خبير الطاقة المتجددة والشبكات الكهربائية الذكية، وأستاذ مشارك، قسم الهندسة الكهربائية -الجامعة الهاشمية، الأردن
E-mail: ferasasali@hu.edu.jo