في ظلّ التحديات الاقتصادية والبيئية والسياسية التي تواجه لبنان، يسعى قطاع الزراعة إلى استعادة دوره الحيوي في دعم الاقتصاد الوطني وتأمين الأمن الغذائي. في هذا الإطار، حاورنا وزير الزراعة اللبناني الدكتور نزار هاني الذي تحدث عن واقع القطاع الزراعي، والجهود المبذولة لتطويره وتحديثه، والتحديات المرتبطة بالحوكمة، والتعليم الزراعي، والشراكات الدولية، إضافة إلى مستقبل التصدير إلى دول الخليج.
لبنان يمتلك كفاءات علمية متميزة على مستوى عالمي في مجالات متعددة. ولكن هناك فجوة واضحة بين الجانب الأكاديمي والإبداع اللبناني من جهة، والتطبيق العملي على الأرض من جهة أخرى. برأيك، أين يكمن الخلل وكيف يمكن معالجة هذه الهوة؟
لبنان فعلاً يضم طاقات علمية هائلة، ولدينا أسماء لامعة في مختلف المجالات. لكن المشكلة هي الفجوة بين الأبحاث العلمية والعمل التطبيقي في الميدان. لذلك، في وزارة الزراعة، بدأنا بالعمل على ردم هذه الفجوة من خلال إنشاء ما نسميه “شبكة الشركاء”، التي تضم الأكاديميين والجهات الدولية والمزارعين في مختلف المناطق، مثل الهرمل، بهدف تعزيز التواصل العملي بينهم.
كيف تُترجم هذه المبادرات على أرض الواقع؟
قمنا بتشكيل لجان وطنية لكل قطاع: لجنة الزيتون الوطنية، لجنة العسل، لجنة العمل الزراعي وغيرها. كل لجنة تعمل على تطوير قطاعها بشكل متخصص. كما نعمل اليوم على إعداد الاستراتيجية الوطنية للزراعة في لبنان (National Agricultural Strategy) للفترة الممتدة بين 2025 و2035، والتي تجمع جميع الفاعلين في القطاع لتحقيق أهداف طويلة المدى.
خلال السنوات الأخيرة، تعرض القطاع الزراعي اللبناني لضربة قوية بسبب جائحة كورونا والحرب السورية وإغلاق الحدود. ما حجم الأضرار وكيف تعملون على تعويضها؟
بحسب تقرير البنك الدولي، بلغت الأضرار في القطاع الزراعي نحو 172 مليون دولار، بينما وصلت الخسائر الإجمالية إلى ما يقارب 800 مليون دولار، أي قرابة المليار. حالياً لدينا عدة مشاريع يجري تنفيذها، بعضها ممول من الدولة وبعضها الآخر من جهات داعمة خارجية. كما حصلنا على قرض بقيمة 200 مليون دولار مخصص حصراً للقطاع الزراعي، وهو الأول من نوعه في لبنان.
ماذا عن تطوير المعرفة الزراعية لدى المزارعين في المناطق الريفية مثل عكار والهرمل وراشيا؟
أطلقنا البرنامج الوطني للإرشاد الزراعي، وهو برنامج شامل لتدريب المزارعين في جميع المناطق اللبنانية. يتم التدريب بحسب الاحتياجات الفعلية للمواسم الزراعية. مثلاً، حالياً نعمل على تدريب المزارعين حول إدارة الحقول وزيادة الإنتاج، ونعرفهم على الأدوات الحديثة مثل المقصات الكهربائية والمعدات التي تعمل بالبطارية. إنها عملية مستمرة تحتاج وقتاً وجهداً، لكننا انطلقنا بخطوات ثابتة.
ملف الحوكمة في القطاع الزراعي بالغ الأهمية، خاصة في ظل ما يُثار عن علاقة الغذاء بالأمراض المزمنة كالسرطان. ما الذي تقوم به الوزارة في هذا الإطار؟
بدأنا أولاً بإنشاء السجل الزراعي الوطني، وندعو جميع المزارعين للتسجيل فيه للحصول على بطاقة تعريف زراعية تتضمن رقماً وطنياً زراعياً. من خلالها، سيتمكن المزارع من الحصول على الدعم المالي وغير المالي بشكل مباشر وشفاف. نعمل أيضاً على تطوير هذه البطاقة لتصبح لاحقاً بطاقة دفع (Payment Card) تُستخدم في المعاملات الزراعية. كما أطلقنا الإحصاء الزراعي الشامل الذي يُجرى كل عشر سنوات، بهدف توجيه الزراعة في لبنان بطريقة علمية ومدروسة.
كثير من المزارعين يفضلون الطرق السريعة لتحقيق الأرباح، مما قد يؤدي إلى الإفراط في استخدام المواد الكيميائية. كيف تعملون على ضبط هذا الأمر؟
اتخذنا قراراً يقضي بأن محلات بيع الأدوية الزراعية لا يمكنها بيع أي دواء إلا عبر وصفة زراعية صادرة عن مهندس زراعي مرخص، ابتداءً من 1 أبريل 2026. هذا الإجراء يهدف إلى ضبط استخدام المبيدات وضمان الرقابة. كما قمنا بتدريب المهندسين الزراعيين بالتعاون مع نقابة المهندسين لرفع كفاءتهم في مجال الأدوية والأسمدة. لدينا أيضاً لجان رقابة مختصة، مثل لجنة الأدوية الزراعية ولجنة الأسمدة، وتعمل وفق معايير الاتحاد الأوروبي لضمان سلامة المنتجات.
وماذا عن مشكلة تهريب الأدوية والأسمدة الزراعية الفاسدة؟
التهريب يمثل تحدياً كبيراً، لكننا بالتعاون مع الجيش اللبناني والجهات الأمنية تمكنا خلال الأشهر الأخيرة من مصادرة نحو 35 طناً من الأدوية الزراعية غير الصالحة وإقفال عدد من المحلات المخالفة في مختلف المناطق. الوزارة استعادت دورها الرقابي بعد سنوات من الغياب، ونعمل على ترسيخ مفهوم الرقابة المستدامة في كل الوزارات المعنية.
لننتقل إلى الزراعة العضوية. ما موقعها اليوم في لبنان؟
الزراعة العضوية أصبحت محوراً أساسياً في خططنا. لبنان من قلة من الدول التي تمتلك قانوناً خاصاً بالزراعة العضوية. شكلنا هذا العام اللجنة الوطنية للزراعة العضوية لتطبيق المرسوم الصادر عام 2020، ومهمتها تنظيم القطاع ومراقبة تطبيق المعايير. إحدى الخطوات المهمة أيضاً هي إطلاق نظام تتبع الإنتاج الزراعي، بحيث يُسجّل كل مزارع ممارساته الزراعية ويُمنح شهادة صحية تسمح له بالتصدير.
هل يمكن إعطاؤنا مثالاً عملياً على تطبيق هذا النظام؟
نعم، مثلاً مزارعو الأفوكادو الذين يصدرون منتجاتهم إلى تركيا باتوا ملزمين بتسجيل بساتينهم وتوثيق كل الخطوات الزراعية التي يقومون بها، لضمان الشفافية والحصول على شهادة التصدير.
أخيراً، ما هي آخر المستجدات في العلاقات الزراعية مع دول الخليج، وخصوصاً دولة الإمارات والسعودية؟
الخليج يبقى السوق الأساسي للمحاصيل اللبنانية، ولكننا نواجه اليوم مشكلة إقفال الطريق البري من المملكة العربية السعودية بسبب بعض الحوادث السابقة، مما يمنع مرور الشاحنات اللبنانية حتى بالترانزيت. نحاول حالياً التفاوض للسماح بمرور البضائع عبر الأراضي السعودية حتى وإن لم يُسمح بدخولها بشكل مباشر. للأسف، لا يزال النقل البحري والجوي هو الخيار الوحيد حالياً، رغم ارتفاع تكاليفه. ومع ذلك، نحن متفائلون، فقد قطعنا شوطاً متقدماً جداً في المفاوضات، ونأمل أن يُسمح قريباً بعودة التصدير البري إلى أسواق الخليج.