تتصاعد أزمة الصحة النفسية في العالم، ولا يقتصر تأثيرها على الحياة الشخصية فحسب، بل يتعداها إلى بيئة العمل، إذ يعاني الموظفون حول العالم من مستويات عالية من الإجهاد والقلق والاكتئاب، مما يؤثر سلبًا على أدائهم وإنتاجيتهم.
ولا يمكن اعتبار الحديث عن تعزيز الصحة النفسية للموظفين في أماكن العمل قضية ثانوية، بل يجب أن تحتل أولويات رؤساء العمل، حيث تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن 15٪ من البالغين في سن العمل عانوا من اضطراب نفسي في عام 2019، وعلى الصعيد العالمي، يتم إهدار نحو 12 مليار يوم عمل كل عام بسبب الاكتئاب والقلق وهو ما يكلف الاقتصاد تريليون دولار أمريكي سنويا من الإنتاجية المهدرة.
وفي الوقت نفسه، من منظور أكثر إقليمية، كشف تقرير ماكينزي لعام 2023 أن الإرهاق في دول مجلس التعاون الخليجي أصبح الآن أعلى من المتوسط العالمي، حيث يعاني واحد من كل ثلاثة من المشاركين في الاستطلاع من هذه الظاهرة المهنية، كما وجد التقرير أن العمال في دول مجلس التعاون الخليجي كانوا أكثر عرضة بمرتين للتفكير في ترك وظائفهم من نظرائهم الدوليين.
وفي اليوم العالمي للصحة النفسية، تناقش هذه القصة من خلال آراء المتخصصين، العوامل التي تؤثر على الصحة النفسية في أماكن العمل، كيف يمكن للمؤسسات اتخاذ خطوات عملية لخلق بيئة صحية عقلياً للموظفين.
الإجهاد والإرهاق يزدادان انتشاراً بين الموظفين
صنفت منظمة الصحة العالمية العديد من العناصر على أنها تمثل خطراً على الصحة النفسية للموظفين داخل أماكن العمل، والتي قد ترتبط بمتطلبات الوظيفة أو الجدول الزمني للعمل، أو الخصائص المحددة لمكان العمل أو فرص التطور الوظيفي، ومن بين هذه التهديدات، نقص استخدام المهارات أو عدم امتلاك المهارات الكافية للعمل؛ وأعباء العمل المفرطة أو وتيرته، ونقص الموظفين؛ والعمل لساعات طويلة أو في أوقات غير معتادة أو غير مرنة؛ وعدم التحكم في تصميم الوظيفة أو عبء العمل؛ وظروف العمل المادية غير الآمنة أو المتردية.
وكان من بين التهديدات التي حذرت منها المنظمة أيضاً، وجود ثقافة تكرس السلوكيات السلبية في المؤسسة؛ أو الدعم المحدود من الزملاء أو تسلط المشرفين؛ والعنف أو المضايقة أو التنمر؛ والتمييز والإقصاء؛ وعدم وضوح الدور الوظيفي؛ والترقية الناقصة أو المفرطة؛ وانعدام الأمان الوظيفي، أو عدم كفاية الأجور، أو ضعف الاستثمار في التطوير الوظيفي؛ والتضارب بين متطلبات المنزل و العمل.
وفي بيان صحفي صدر عنها بالأمس، قالت منظمة “إس أو إس” العالمية، إنه على مدار العامين الماضيين، كانت أهم خمسة طلبات مساعدة متعلقة بالصحة العقلية تلقتها المنظمة مرتبطة بالاكتئاب، واضطراب الهلع، واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD)، والإجهاد الحاد، مضيفة أن الإرهاق أيضًا أصبح مشكلة بارزة بين الموظفين، حيث أبلغ واحد من كل أربعة موظفين في جميع أنحاء العالم عن أعراض الإرهاق، وهو ما يمثل تهديدًا كبيرًا يؤثر على المؤسسات.
في هذا السياق، تقول ماريسا بير، معالجة نفسية، إن العالم الآن يعيش تحت ضغط مستمر ويطالب الموظفين بالعمل دون توقف وبذل المزيد من الجهد، مما أدى إلى شيوع الإجهاد والإرهاق كأحد أبرز التحديات الصحية العقلية التي يواجهها الموظفون، ويحدث بسبب صعوبة التوفيق بين الأولويات، والسعي إلى الالتزام بمواعيد العمل ، ومحاولة تحسين الآداء بشكل مستمر ، بالتوازي مع شعور الموظفين بعدم التقدير .
وتابعت في حديثها مع ESG Mena : ” في عصر الأزمات المالية وصعود الذكاء الاصطناعي في مكان العمل، هناك أيضًا شعور متزايد بالقلق بشأن الأمن الوظيفي، وهذا يمكن أن يخلق حلقة سامة من القلق تؤثر على الأداء والرفاهية، وللأسف، غالبًا ما يكافح الموظفون في صمت لأنهم يخشون أن يُحكم عليهم أو يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء، لكن الواقع هو أنه عندما تضغط على نفسك دون معالجة هذه المشاعر، فإن عقلك وجسدك سيدفعانك في النهاية إلى الوراء، ويتجلى ذلك في القلق أو الاكتئاب أو حتى المرض الجسدي، وبالتالي فإن بيئة العمل الإيجابية ضرورية للرفاهية العقلية لأنها تعزز الشعور بالأمان والانتماء والاحترام، وتجعل الموظفين أكثر ازدهاراً وإبداعًا وإنتاجية”.
ووصفت بير الاستثمار في سعادة الموظفين بـ”مفتاح نجاح مؤسسات العمل”، لأنه سيحقق التوازن الصحي بين العمل والحياة، ويوفر فرصًا للنمو، ويعزز المرونة، سواء كان ذلك في ساعات العمل أو من خلال خيارات العمل عن بُعد، والتي ثبت أنها تزيد من الإنتاجية بعد أن أجبر كوفيد العديد من الناس على العمل من المنزل.
ما هي العواقب المحتملة لإهمال الصحة العقلية في مكان العمل؟
وترى بير إنه يمكن أن يؤدي إهمال الصحة العقلية في مكان العمل إلى عواقب مدمرة لكل من الموظفين والمنظمة، فعلى المستوى الفردي، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الإجهاد المزمن والإرهاق ومجموعة من مشاكل الصحة العقلية، بما في ذلك القلق والاكتئاب، والتي لا تؤثر فقط على الحياة الشخصية للموظف ولكن أيضًا على إنتاجيته وإبداعه وأدائه الوظيفي بشكل عام، وبالنسبة للمنظمات، غالبًا ما يؤدي ضعف الصحة العقلية بين الموظفين إلى ارتفاع معدل دوران العمل والتغيب وانخفاض الكفاءة وحتى الخسائر المالية.
وعلقت: “عندما يشعر الناس بعدم الدعم، فإنهم ينفصلون، وبالتالي فإن الشركات التي تهمل الصحة العقلية تفوت الإمكانات الحقيقية لقوتها العاملة، وهذا سيجعل الشركة تتكلف خسائر بشرية ومادية كبيرة”.
واتفق معها جان جيربر، الرئيس التنفيذي لعيادات باراسيلسوس للتعافي، الذي قال إن مصطلح “بيئة العمل الإيجابية” يشير إلى ثقافة يشعر فيها الموظفون بالدعم والاهتمام والأمان، وهذا يعني خلق شعور بالأمان النفسي، مثل ضمان شعور الموظفين بالراحة عند ارتكاب الأخطاء، وطلب المساعدة دون خوف من العقاب، متابعاً أن الإجهاد المفرط في مكان العمل في أكثر من 120 ألف حالة وفاة كل عام، ويتفاقم بسبب قضايا عالمية مثل الحروب والأوبئة وأزمات تكاليف المعيشة.
وتابع في حديثه مع ESG Mena: “يعاني العديد من الأشخاص في أماكن العمل من مشاعر العزلة، والحمل الزائد، والإجهاد المزمن، ونسب العمل والحياة غير المتوازنة، والاعتقاد المستمر بأنهم لا يفعلون ما يكفي، أو يكسبون ما يكفي، أو يؤدون بمستوى عالٍ بما فيه الكفاية، كما أن المخاوف بشأن الأمن الوظيفي وزيادة العزلة بسبب العمل عن بعد هي عوامل أخرى تساهم في تحديات الصحة العقلية المرتبطة بمكان العمل، وهذه الضغوطات تستنزف شعورنا بالسعادة، وتتركنا منهكين وقلقين وعديمي الهدف، ونتيجة لذلك، أصبح الموظفون محترقين بشكل متزايد، أو قلقين، أو مكتئبين، أو معتمدين على إجراءات تشعرهم بأنهم مستريحين مؤقتا”.
وقال إن العديد من الدراسات أظهرت أن التركيز على السلامة النفسية يساعد في استرخاء أنظمتنا العصبية وتعزيز المواد الكيميائية العصبية التي تمنحنا المشاعر الإيجابية، وكلاهما مفيد لمكان العمل. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن الشركات التي تعطي الأولوية للسلامة النفسية شهدت زيادة بنسبة 50٪ في الإنتاجية وانخفاضًا بنسبة 40٪ في معدلات الإرهاق.
ومن جانبه، قال عادل بن هداية الفلاسي، مدافع عن الصحة النفسية، وصانع بودكاست متخصص في هذا المجال، إن التحديات الأكثر شيوعًا تشمل التوتر المفرط بسبب ضغوط العمل، والإرهاق الناتج عن ساعات العمل الطويلة، وعدم التوازن بين العمل والحياة الشخصية، إضفة إلى عدم وجود سياسات واضحة تعزز الرفاهية النفسية.
وتابع أن بيئة العمل الإيجابية تساهم في تقليل التوتر وتحسين الإنتاجية من خلال تعزيز الشعور بالانتماء والتقدير، ويتم ذلك من خلال توفير قنوات دعم نفسي للموظفين، وتشجيع التوازن بين العمل والحياة، وتوفير فرص للتطور الشخصي والمهني، لأن إهمال الصحة النفسية يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإجهاد والغياب، وتراجع الأداء والإنتاجية، وخسارة المواهب، وتفاقم التكاليف الصحية.
وطالب أصحاب العمل بتوفير برامج دعم نفسي، مثل الاستشارات والتدريبات على إدارة التوتر، وإنشاء بيئة عمل مرنة تتيح للموظفين التواصل بشأن قضاياهم النفسية دون خوف من الوصمة، معلقاُ: ” في المنطقة العربية، بدأ يتزايد الاهتمام بالصحة النفسية في بيئة العمل، وأصبحت الحكومات والشركات تدرك أهمية الرفاهية النفسية في تحسين الأداء والإنتاجية، وبالتالي قامت بتطوير مبادرات مخصصة لتعزيز الصحة النفسية”.
ما دور أصحاب العمل في تعزيز الصحة النفسية للموظفين؟
وفي هذا السياق، يقع على عاتق الحكومات وأصحاب الأعمال مسؤولية كبيرة في تعزيز الصحة النفسية للموظفين، فوفقاً لإرشادات منظمة الصحة العالمية، يجب عليهم تهيئة بيئة مناسبة للعمل الصحي، وحماية وتعزيز الصحة النفسية في مكان العمل، والوقاية من اعتلالات الصحة النفسية المرتبطة بالعمل من خلال إجراءات عديدة منها على سبيل المثال توفير ترتيبات عمل مرنة، أو تنفيذ أطر للتعامل مع العنف والتحرش في العمل؛ ودعم العاملين الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية للمشاركة والازدهار في العمل.
وأوصت المؤسسات بتدريب المديرين بشأن الصحة النفسية للتعرّف على علامات الاضطراب العاطفي لدى الموظفين، إضافة إلى تدريب العاملين في مجال التثقيف والتوعية بالصحة النفسية، واتخاذ تدابير إضافية لمساعدة الموظفين مثل ساعات عمل مرنة، أو تعديل المهام للحد من الإجهاد، أو إجازة للمواعيد الصحية، أو صناعة برامج عودة إلى العمل بعد غياب مرتبط باعتلالات الصحة النفسي.
وتقول بير إن أصحاب العمل مسؤولون عن تعزيز الصحة العقلية، بدءًا من خلق ثقافة تعطي الأولوية للرفاهية، مضيفة: “يجب تعزيز بيئة من التواصل المفتوح حيث يشعر الموظفون بالأمان في التحدث عن صحتهم العقلية دون خوف من الوصمة، و يجب على القيادة أن تكون نموذجًا لهذا السلوك الصحي من خلال وضع حدود واضحة، وتمكين الوصول إلى موارد الصحة العقلية، بما في ذلك خدمات الاستشارة وأيام الصحة العقلية وبرامج العافية التي تركز على إدارة الإجهاد واليقظة واللياقة البدنية، إضافة إلى تحقيق المرونة، مثل تقديم ساعات عمل مرنة أو خيارات العمل عن بُعد فرقًا كبيرًا في تقليل التوتر.
وأضافت أنه يمكن لأصحاب العمل التحقق من فعالية برامج دعم الصحة النفسية داخل مؤسساتهم من خلال الاستطلاعات مجهولة المصدر، أو فتح التواصل بين القيادة والموظفين لخلق ثقافة تكون فيها الرفاهية جزءًا من نسيج الشركة.
أما جان جيربر، فيرى أن أن العناصر الأساسية لتحقيق بيئة العمل الصحية عقليًا تتمثل في “الشفافية”، و تشجيع الحوار الواضح والصادق، وبناء الفريق من خلال تنظيم الأنشطة التي تعزز التعاون، إضافة إلى الترتيبات المرنة للعمل، والسماح للموظفين بالعمل بطريقة تناسبهم مما يساعد في إدارة التوازن بين العمل والحياة، وتقليل التوتر، وإعطاء الأولوية للعناية الذاتية، والانفتاح بشأن التحديات، وتمكين الموظفين من الوصول إلى الدعم.
وحذر جيربر من استمرار انتشار “وصمة العار” المرتبطة بالصحة العقلية في المؤسسات، وأيضاً من الخوف المنتشر بين القوى العاملة من أن التقدم الوظيفي قد يكون معرضًا للخطر إذا أخذوا وقتًا للراحة لأسباب تتعلق بالصحة العقلية، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم مشاكل الصحة العقلية وانسحاب الشخص من العمل تماما.
وعلّق: “مشاكل الصحة العقلية مكلفة، و يدفع أصحاب العمل ما يقدر بنحو 17 مليار دولار سنويًا لتكاليف الرعاية الصحية المتعلقة بالصحة العقلية في الولايات المتحدة، وفي الإمارات العربية المتحدة يدفعون نحو 3.5 مليار دولار أمريكي، وفي حالة الانحياز إلى ثقافة تعطي الأولوية للإنتاج على رفاهية الموظفين، سنجد أنفسنا في حلقة مفرغة غير مستدامة تضر في النهاية بالإنتاجية والربحية، ومن هنا فإن إهمال الصحة العقلية يؤثر على صافي أرباح الشركة وموظفيها في الخطوط الأمامية وقيادتها.”.
وعلى الجانب الآخر، أكّد على أن القيادة المتعاطفة لا تعني التسامح غير المشروط، وعلى أن أفضل القادة يحافظون دائمًا على قيم قوية وأهداف ورؤية واضحة، يستخدمونها لإلهام موظفيهم للعمل نحو هذه المثل العليا”.
هل تدعم اللوائح والقوانين صحة العاملين النفسية؟
على المستوى العالمي، هناك العديد من الاتفاقيات والأطر القانونية التي تهتم بوضوح بالعلاقة بين بيئة العمل والصحة العقلية للموظفين، ومن بينها اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن السلامة والصحة المهنيتين التي تضمنت أطرا قانونية لحماية صحة العاملين وسلامتهم.
لكن هذه الأطر القانونية لم تمثل بعد نسبة كافية، إذ يشير أطلس الصحة النفسية الصادر عن منظمة الصحة العالمية إلى أن هناك 35 في المائة فقط من البلدان أبلغت عن تنفيذها لبرامج وطنية بشأن تعزيز الصحة النفسية، والوقاية من مشاكلها الناجمة عن العمل، في الوقت نفسه، تسببت جائحة كوفيد-19 في زيادة قدرها 25 في المائة في معدلات الشعور بالقلق والاكتئاب عمومًا في جميع أرجاء العالم، ممّا كشف القصور في استعداد الحكومات لمواجهة تأثير الجائحة على الصحة النفسية، وعن نقص عالمي مزمن في موارد الصحة النفسية، وفقاً لمنظمة الصحة النفسية.
كتبت: هدير الحضري، صحفية أولى في ESG Mena Arabic