في شهر أكتوبر الجاري، صدر تقرير جديد عن الأمم المتحدة كشف عن أن عام 2023 كان الأكثر جفافا بالنسبة للأنهار العالمية منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو ما يعكس وجود تغير جذري في مستوى توافر المياه في ظل أزمة تغير المناخ التي تتصاعد بوتيرة سريعة وغير متوقعة، ويعني أيضاً الابتعاد عن تحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة الذي يستهدف ضمان حصول الجميع على مياه الشرب المأمونة وبأسعار معقولة بحلول عام 2030.
وذكر تقرير حالة موارد المياه العالمية الذي أطلقته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، أن السنوات الخمس الماضية شهدت تدفقاً أقل من المعتاد بالنسبة للأنهار، مع نمط مماثل لتدفق خزانات المياه، وكنتاج لذلك، ستقل كمية المياه المُتاحة للشرب والزراعة والاستهلاك للكائنات الحية، وهو ما يعني المزيد من الضغط على موارد المياه الحالية، التي تعاني من انحسار كبير في السنوات الأخيرة.
في الوقت نفسه، أوضح التقرير أن الأنهار الجليدية عانت من أكبر خسارة في الكتلة الجليدية على الإطلاق تم تسجيلها خلال العقود الخمسة الماضية، كما أشار إلى أن عام 2023 هو العام الثاني على التوالي الذي يتم فيه تسجيل فقداناً للجليد في كل أنحاء العالم، كما كان هذا العام هو الاكثر سخونة على الإطلاق، وتسببت درجات الحرارة المرتفعة في فترات جفاف طويلة، و تأثرت الظواهر الجوية المائية الحادة بالظروف المناخية التي تحدث بشكل طبيعي بسبب الانتقال من ظاهرة النينيا إلى ظاهرة النينيو في منتصف عام 2023، وأيضاً بسبب تغير المناخ الناجم عن النشاط البشري.
وفي هذا السياق، اعتبرت الأمينة العامة للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، سيليست ساولو، هذه المؤشرات بمثابة “إنذار مبكر لتغير المناخ”، وحذرت من كون هذا الإنذار يعني المزيد من الخسائر الفادحة في الأرواح والنظم البيئية والاقتصادات، وتهديد الأمن المائي لملايين الأشخاص.
كل هذه الحقائق المخيفة أصبحت تثير الكثير من التساؤلات حول السنوات القادمة، والأزمات غير النهائية التي يمكنها أن تنتج عن زيادة شح المياه في المستقبل إذا استمر العالم في المضي قدماً على نفس المسار ولم يتخذ إجراءات فعالة لتقليل الانبعاثات الكربونية ومكافحة تغير المناخ.
شُح المياه يهدّد ملايين الأشخاص حول العالم
على مستوى العالم، هناك نحو 3.6 مليار شخص محرومون من الوصول إلى المياه لمدة شهر واحد على الأقل سنويا، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى أكثر من 5 مليارات بحلول عام 2050، وفقا للجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية.
وبشكل عام، فإن أزمات المياه هي النتيجة الأكثر خطورة لتغير المناخ، والذي يؤدي إلى تفاقم شُحّ المياه، ومخاطر الفيضانات والجفاف، كما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تعطيل أنماط التهاطل ودورة المياه بأكمله، وفقاً لـ”ليونيسيف”.
ما هو حجم المشكلة في المنطقة العربية؟
وبالنظر إلى حجم مشكلة ندرة المياه في المنطقة العربية، فإن الأرقام مفزعة، إذ تشير إحصائيات الأمم المتحدة الأخيرة في مارس 2023، إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص في المنطقة العربية يفتقرون إلى مياه الشرب الأساسية، أي تقريباً نحو 90% من إجمالي عدد السكان الذين يبلغ عددهم حوالي 390 مليون شخص، وهو ما علقت عليه رولا عبد الله دشتي، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) خلال مؤتمر الأمم المتحدة للمياه في نيويورك، بقولها: “المنطقة العربية لا تسير على المسار الصحيح فيما يتعلق بتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة، والمتعلق بتوفير المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي للجميع بحلول عام 2030″.
وبينما يؤدي تغير المًناخ إلى نقص المياه عموماً، إلا أن هذا التأثير يظهر بشدة فيما يتعلق بتوافر المياه العذبة، حيث المياه العذبة الصالحة للاستخدام والمتاحة 0.5 في المائة فقط من المياه الموجودة على الأرض، ووفقاً للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، فإنه على مدى العشرين سنة الماضية، انخفض مخزون المياه الأرضي، بمعدل 1 سم في السنة، وهو ما يعني تداعيات كبيرة على الأمن المائي.
وبحثاُ عن الحلول، أطلق البنك الدولي، في العام الماضي تقرير “اقتصاديات شح المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ــ حلول مؤسساتية” الذي أكد على أن الشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تواجه شحا غير مسبوق في المياه، متوقعاً أن تنخفض كمية المياه المتاحة للفرد سنويا عن الحد المطلق لشح المياه، والبالغ 500 متر مكعب للفرد سنويا، كما توقع أنه بحلول عام 2050، ستكون هناك حاجة إلى 25 مليار متر مكعب إضافية، من المياه سنويا، وهذا يعادل تقريباً إنشاء 65 محطة أخرى لتحلية المياه، بحجم محطة رأس الخير في المملكة العربية السعودية، والتي وصفها التقرير بأنها الأكبر في العالم في الوقت الحالي.
واقترح التقرير سلسلة من الإصلاحات بشأن إدارة الموارد المائية لتخفيف الضغوط عليها، ومن بينها إعادة تخصيص المياه لاستخدامات ذات قيمة أعلى، والحد من النفايات، وزيادة التعريفات المالية المتعلقة بخدمات المياه، وإجراء إصلاحات مؤسسية لأنه بدونها، ستظل المنطقة في ضائقة مائية حتى مع زيادة التمويل للبنية الأساسية لقطاع المياه، على حد وصف التقرير.
في السياق ذاته، دعا برنامج الأمم المتحدة للبيئة منذ عدّة أشهر، إلى اتخاذ العديد من الإجراءات لمواجهة شح المياه، منها حماية وإصلاح المساحات الطبيعية، لأن النظم البيئية التي تزود البشرية بالمياه العذبة تقع ضحية لتغير المناخ والاستغلال المفرط والتلوث، وهذا يقوض قدرتها على تزويد المجتمعات المحلية بالمياه، كما طالب بزياد كفاءة استخدام المياه في الزراعة التي تستهلك حوالي 70 في المائة من مجموع المياه العذبة المستخدمة على مستوى العالم،
في الوقت نفسه، شجع البرنامج على التحول إلى الأنظمة الغذائية النباتية، لأن غنتاج الغذاء النباتي يستهلك كميات مياه أقل بكثير مقارنة بإنتاج الغذاء الحيواني، حيث يتطلب إنتاج كيلو واحد من اللحوم نحو 15000 لتر من الماء تقريباً.
أيضاً، هناك أمل في التعامل مع مشكلة تسربات المياه للتقليل من إهدار المياه، فوفقاً للامم المتحدة، تشير الأرقام الوطنية إلى أن الكمية هائلة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، تؤدي تسربات المياه المنزلية إلى إهدار ما يقرب من تريليون جالون من المياه سنويا.
إضافة لإبى ذلك، يمثل إعادة استغلال موارد المياه غير التقليدية حلاً مهما، مثل معالجة وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي، وتجميع مياه الأمطار، وتحلية المياه المالحة.
وتنتشر بعض هذه الحلول في منطقة الشرق الأوسط، ومن أبرزهم السعودية التي تتصدر دول العالم في تحلية المياه، إذ بلغ على سبيل المثال إنتاج السعودية من المياه المحلاة حوالي 11.5 مليون متر مكعب من المياه المحلاة يومياً، وفقاً للإحصائيات الأخيرة التي نشرها موقع الهيئة السعودية للمياه، فيما نفذت مصر محطات تحلية فى منطقة مطروح والضبعة تعمل على تحلية 100 ألف متر مكعب يومياً، بالإضافة إلى محطات فى جنوب سيناء الواحدة تنقى 20 ألف متر مكعب يوميا.
القطاع الخاص يلعب دور رئيسي في الاستثمار
وفي ظل هذه التحديات المائية المتصاعدة، يشارك القطاع الخاص بدور محوري في تعزيز وزيادة الاستثمارات في قطاع المياه، وذلك من خلال تطوير تقنيات جديدة لتنقية المياه وإعادة تدويرها، وتوظيف التكنولوجيا في تطوير أنظمة ذكية لإدارة المياه .
ووفقاً لإحصائيات البنك الدولي، فإن نقص مياه الشرب والصرف الصحي يكلف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 21 مليار دولار سنويا من الخسائر الاقتصادية، كما توقيع في تقرير آخر أن المنطقة قد تشهد خسائر في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تتراوح قيمتها بين 1.1% و6.6% بحلول منتصف القرن بسبب شح المياه.
ويشهد الشرق الأوسط زخماً من مشروعات القطاع الخاص التي تهدف إلى الاستثمار في مجال دعم المياه، ففي المملكة العربية السعودية، في عام 2022على سبيل مشروعات شركة “إينوا” في نيوم، الواقعة في شمال غرب المملكة العربية السعودية، أعلنت شركة إينووا للطاقة والمياه والهيدروجين، إحدى الشركات التابعة لنيوم، تطوير أول محطة تحلية مياه تعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 100%، وذلك للمساعدة على إنشاء إمدادات مياه مستدامة للسكان، مع إعادة استثمار المخلفات الناتجة عن عملية التحلية لإنتاج كميات كبيرة من المواد الصناعية .
وعالمياً، من المتوقع أن يصل حجم سوق تحلية المياه إلى 10.482 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2022، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل نمو سنوي مركب قدره 8.83٪ ليصل إلى حجم سوق قدره 18.965 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2029.
وفي السياق ذاته، قال بادي بادماناثان، الرئيس التنفيذي لشركة “أكوا باور” في الإمارات، خلال تصريحات في المنتدى الاقتصادي العالمي، إن شركته تنتج يومياً نحو 6.4 مليون متر مكعب من المياه المحلاة، كما تستخدم التكنولوجيا لتقليل استهلاك الطاقة والمواد الكيميائية، وتقليل تكلفة إزالة الملح من مياه البحر لتحلية المياه.
وبالتوازي مع مبادرات ومشروعات القطاع الخاص، برزت عدة مبادرات منظمة من قبل المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني، ففي عام 2023، أطلقت الإسكوا المبادرة العربية لحشد التمويل المناخي من أجل المياه من خلال إشراك مجموعة من أصحاب المصلحة في البلدان العربية للتعاون في تنفيذ المشاريع العابرة للحدود المتعلقة بالمياه، وكان من بين الشركاء في المبادرة جامعة الدول العربية، والبنك الإسلامي للتنمية، ومنظمة الفاو، وصندوق المناخ الاخضر.
وفي عام 2022، انطلقت مبادرة «السلام الأزرق» في الشرق الأوسط كمبادرة إقليمية غير حكومية تهدف إلى توطيد التعاون في مجال المياه عبر الحدود وتعمل على حسين أمن المياه والغذاء والطاقة في المنطقة والحفاظ على النظم الإيكولوجية في ظل تغير المناخ.
وبالرغم من تزايد الاستثمارات، إلا ان هذا لا يزال غير كافياً في ظل تصاعد أزمة تغير المناخ وشح المياه، وزيادة الفجوة بين التمويل الفعلي لمشروعات التخفيف والتكيف، وبين الاحتياجات الحقيقية للبلدان، لذا يستلزم على الحكومات والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني اتخاذ المزيد من الخطوات لتحقيق ذلك.
كتبت – هدير الحضري، صحفية أولى في ESG Mena