تطورت مبادئ الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة من إطار عمل للمسؤولية المؤسسية إلى عنصر أساسي في عملية اتخاذ القرارات التجارية والاستثمارية.
وتُعدّ هذه المبادئ بمثابة معايير لتقييم الأثر البيئي للمؤسسة، وسياساتها الاجتماعية، وهياكل الحوكمة، وفي هذا السياق، أصبح الامتثال لمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة مطلبًا أساسيًا للشركات العالمية التي تسعى إلى الاستثمار والمشروعية التشغيلية.
وفي سعيها نحو التحول الاقتصادي، وضعت قطر الاستدامة في صميم رؤيتها طويلة المدى، حيث تتكيف الدولة مع لوائح الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة المتطورة، والتي على الرغم من أنها تُشكّل بعض التحديات، تُتيح أيضًا فرصًا لجذب الاستثمار وتعزيز المصداقية الدولية.
يستكشف هذا المقال مبادرات قطر في مجال الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة، والعقبات التي تواجهها، والأهمية الاستراتيجية لتطبيق هذه المبادئ
تطبيق مبادئ الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة في قطر
على مدى العقد الماضي، أصبح اقتصاد قطر مترابطًا بشكل وثيق مع الأسواق العالمية، ويتجلى ذلك في الأهمية الدولية لقناة الجزيرة وصادرات قطر الواسعة من النفط والغاز، ومع توجه الدولة نحو نموذج اقتصادي أكثر تنوعًا واستدامة، فإنها تتبع مسارًا مشابهًا لجيرانها الخليجيين، بهدف ترسيخ سمعتها كدولة رائدة في مجال الاستدامة.
وُضعت أسس اعتماد الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتعود أصول مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية إلى مدونة سوليفان، التي قدمتها شركة جنرال موتورز في البداية كإطار عمل أخلاقي للأعمال للتعامل مع جنوب إفريقيا في حقبة الفصل العنصري، ومع مرور الوقت، توسع هذا المفهوم ليشمل إرشادات أوسع للمسؤولية الاجتماعية للشركات، ليشكل في النهاية ما يُعرف الآن بمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية.
في قطر، انصب التركيز الأساسي على الاستدامة البيئية، ومنذ عام 2009، قامت هيئة التخطيط والإحصاء بجمع ونشر مؤشرات التنمية المستدامة لرصد التقدم المحرز لتعزيز الاستثمار المُوجّه نحو الاستدامة، ;كما طرحت قطر أطر عملٍ مُتكاملة للاستدامة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، بما في ذلك مشاركة بورصة قطر في مبادرة الأمم المتحدة للبورصات المستدامة ، وتقديم إرشادات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وإنشاء أول منصة استدامة ومؤشر قابل للتداول في البلاد.
في الوقت نفسه، تُعدّ مؤسسة قطر، وهي منظمة غير ربحية، لاعباً أساسياً في هذا التحول الوطني، حيث لعبت دوراً محورياً في تعزيز الاستدامة من خلال التعليم والبحث وتنمية المجتمع. وتدعم مبادراتها، بما في ذلك إنشاء المدينة التعليمية ودعم الابتكار الأخضر، أهداف قطر البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بشكل مباشر.
وتأكيداً على هذا الالتزام، تستضيف مؤسسة قطر النسخة الثانية من قمة إيرثنا تحت شعار “بناء إرثنا: الاستدامة والابتكار والمعرفة التقليدية”، والتي تركز على تعزيز الاستدامة في المناخات الحارة والجافة بالاستفادة من التراث الثقافي الغني لقطر ونظمها البيئية المتميزة.
ويتجسد التزام الدولة بالعمل المناخي في رؤيتها الوطنية 2030 واستراتيجيتيها للتنمية الوطنية، اللتين تُعطيان الأولوية لحماية البيئة وبناء القدرة على الصمود، وفي عام 2021، أطلقت قطر خطة العمل الوطنية لتغير المناخ، التي طُوّرت بمشاركة أكثر من 50 منظمة محلية، مما عزز موقفها بشأن التكيف مع المناخ وخفض الانبعاثات.
ومع ذلك، وبينما تُبرز هذه المبادرات تقدم قطر، فإن نجاحها في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية يعتمد أيضًا على الانطباعات الإيجابية، حيث تُقيّم شركات الاستثمار الدولية بشكل متزايد استراتيجيات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية للشركات، وتُدمج مؤسسات مثل جي بي مورغان تشيس، وويلز فارجو، وغولدمان ساكس عوامل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في تحليلاتها المالية. وهكذا، أصبح الامتثال لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية عاملاً حاسماً في قدرة قطر على جذب الاستثمارات والاحتفاظ بها.
كأس العالم لكرة القدم والتزامات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية
شكّل كأس العالم لكرة القدم 2022 عرضًا عالميًا لالتزامات قطر في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، وسُوّقت البطولة بشكل مكثف على أنها أول كأس عالم “خالية من الكربون”، وهو ادعاء خضع لاحقًا للتدقيق، ومع ذلك، استغلت قطر هذا الحدث لتسليط الضوء على مبادراتها في مجال الاستدامة، بما في ذلك ممارسات البناء الأخضر، واستخدام الطاقة المتجددة، واستراتيجيات خفض الانبعاثات.
ويتزايد استخدام الأحداث الرياضية كأدوات للتنويع الاقتصادي في جميع أنحاء الخليج، وقد استضافت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بنجاح امتيازات رياضية كبرى، بما في ذلك الفورمولا وبطولة القتال النهائي ، والملاكمة الاحترافية، إلى جانب فعاليات ترفيهية رفيعة المستوى. كما استضافت السعودية مباريات ملاكمة تاريخية، وأعادت تنشيط الحضور العالمي للرياضة.
تتبع قطر الآن هذا النموذج، حيث تُمثل كأس العالم معلمًا بارزًا في استراتيجيتها الأوسع، ويمثل هذا التحول نحو الترويج الرياضي فرصة اقتصادية طويلة الأجل للاعتماد على الاستدامة أكثر من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
ومع ذلك، يجب أن تمتد استراتيجية الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في قطر إلى ما هو أبعد من الأحداث الرياضية الكبرى للحفاظ على المصداقية وإظهار تأثير دائم.
مستقبل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في قطر
إلى جانب الرياضة وجهود بناء الهوية التجارية العالمية، نفذت قطر العديد من المبادرات المحلية لتعزيز أجندتها في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، ويُعد تطوير “المدن الذكية” مثل مشيرب ولوسيل، التي تُعطي الأولوية للاستدامة وخفض الانبعاثات، خطوةً كبيرةً إلى الأمام.
بالإضافة إلى ذلك، طرحت الدولة أول سنداتها الخضراء، وأنشأت وزارة البيئة وتغير المناخ في عام 2021، وطوّرت مشاريع طاقة متجددة واسعة النطاق مثل محطة الخرسعة للطاقة الشمسية بقدرة 800 ميجاوات، والتي تُوفر حوالي 10% من ذروة الطلب على الكهرباء في قطر.
وللحفاظ على هذا الزخم، قد تحتاج قطر إلى تطبيق إطار عمل مُهيكل لتقييم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية لمراقبة امتثال الشركات، ومن شأن تقديم حوافز مثل المزايا الضريبية والمنح ودعم الاستثمار أن يُشجع الشركات بشكل أكبر على الالتزام بمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، كما تُقدم مبادرة “عام الاستدامة” التي أطلقتها دولة الإمارات العربية المتحدة العام الماضي نموذجًا يُحتذى به في قطر.
يتطلب الانتقال الناجح إلى اقتصاد مستدام تعاونًا أكبر بين القطاعين العام والخاص، وهي استراتيجية تُطبّقها بالفعل دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، إضافةً إلى ذلك، فإن وضع معيار وطني للاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة، مُصمّم خصيصًا للبيئة الاجتماعية والاقتصادية الفريدة في قطر، من شأنه أن يُعزز المرونة على المدى الطويل ويضمن بقاء أهداف الاستدامة قابلة للتكيف مع الظروف المحلية.
الاستثمار، وتصنيفات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، والتأثير العالمي
أصبحت درجات الاستدامة البيئية والاجتماعية والمؤسسية بالغة الأهمية لجذب الاستثمارات الدولية، وغالبًا ما تواجه الشركات التي تفشل في تلبية هذه المتطلبات انخفاضًا في فرص الاستثمار أو مخاطر سحب الاستثمارات، ورغم أن هذه العملية ليست واضحة دائمًا، إلا أن شركات الاستثمار يُمكنها ممارسة الضغط من خلال تحويل رأس المال تدريجيًا بعيدًا عن الشركات ذات تصنيفات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية المنخفضة.
في حالة قطر، سيكون التوافق مع مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية ضروريًا للحفاظ على إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية، و يكتسب هذا الأمر أهمية خاصة مع تزايد دمج المؤسسات المالية الدولية للامتثال لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في تقييمات المخاطر وقرارات الإقراض.
ومع ذلك، لن يعتمد نجاح قطر على تبني معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية فحسب، بل سيتطلب أيضًا إحراز تقدم ملموس وقابل للقياس. وإذا اعتُبرت أطر الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية مجرد ممارسات علاقات عامة، فقد تضعف ثقة المستثمرين. لذلك، سيتم الحكم على فعالية استراتيجية قطر للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في نهاية المطاف من خلال قدرتها على ترجمة السياسات إلى تأثير ملموس وطويل الأجل.
ويمكن القول إن مسيرة قطر في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية تتجاوز مجرد الامتثال التنظيمي، وتعتبر ضرورة استراتيجية للتنويع الاقتصادي، وجذب الاستثمارات، وتعزيز مكانتها العالمية، وقد اتخذت الدولة خطوات مهمة لمواءمة معايير الاستدامة الدولية.
ومع استمرار قطر في تنفيذ مبادرات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، ستعتمد قدرتها على الحفاظ على مصداقيتها على فعالية سياساتها وشفافيتها، وسيحدد نجاحها في اجتياز تقاطع الاستثمار والحوكمة والاعتبارات الثقافية مدى نجاح استراتيجيتها للاستدامة على المدى الطويل.
بقلم: عمر أحمد