تبلغ مساهمة قطاع السفر والسياحة أكثر من 9% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ويوفر حوالي 10% من سوق العمل عالميًا. إلاّ أنّ هذا النجاح لا يأتي دون مقابل، فبين عامي 2010 و2019، ارتفع معدل الغازات الدفيئة الناتجة عن السفر والسياحة بمعدل سنوي متوسط قدره 2.5%، أي ما يعادل 8.1% من الانبعاثات العالمية في عام 2019.[1]
ويؤثر قطاع السفر والسياحة على الموارد المحلية الحيوية؛ ويمكن أن تحمل متطلباته المائية عواقب وخيمة على النظم البيئية المحلية والصناعات والسكان، وخاصة في المناطق الأكثر حرارة والتي تعاني نقصًا في المياه، وشهدت منطقة الشرق الأوسط بين عامي 2010 و2019 زيادة في البصمة المائية الخاصة بالسياحة، حيث تجاوز نمو القطاع كثافة المياه وإمداداتها[2].
لذا من الضروري إعادة رسم ملامح قطاع السفر والسياحة، بما يتيح تحقيق توازن مستدام بين التطوير والحفاظ على الطبيعة، كما يجب أن تتحول الوجهات من استغلال فوائد بيئتها الطبيعية، إلى حماية عالمنا الطبيعي وفق نهجٍ واعٍ ومسؤول.
في المملكة
يتجسد التزام المملكة بالعمل البيئي من خلال مبادئ وأهداف مبادرة السعودية الخضراء، وتوفر كلّ من مبادرة السعودية الخضراء ورؤية السعودية 2030 رؤية مترابطة لاستعادة التوازن الطبيعي في جميع أنحاء المملكة، فضلاً عن المساهمة في التقييم البيئي العالمي، وتحقيق أهداف الاستدامة طويلة المدى مع تقدم المملكة في مسيرتها من “الطموح إلى العمل”.
تتمحور مبادرة السعودية الخضراء حول 3 أهداف شاملة هي تقليل الانبعاثات الكربونية، وتشجير السعودية، وحماية المناطق البرية والبحرية، ويندرج تحت مظلة المبادرة جهود المركز السعودي لكفاءة الطاقة لتنفيذ معايير جديدة لكفاءة الطاقة من خلال توليد الطاقة وتحلية المياه ونقل الكهرباء وتوزيعها بحلول عام 2025؛ إلى جانب الشراكة بين وزارة الطاقة وشركة أرامكو السعودية لاستخدام الكربون المحتجز لإنتاج المواد الكيماوية والوقود الاصطناعي بحلول عام 2030؛ بالإضافة إلى طموحات المملكة بأن تصبح أكبر منتج ومصدر للهيدروجين في العالم بحلول عام 2030، حيث تلتقط أكثر من 27 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون لإنتاج 4 ملايين طن من الهيدروجين النظيف سنويًا.
في العلا
تعمل الهيئة الملكية لمحافظة العلا، في شمال غرب شبه الجزيرة العربية، على إنشاء وجهة سياحية جديدة في منطقة شهدت تدهورًا كبيرًا بسبب الممارسات الزراعية الجائرة، واستنزاف احتياطيات المياه، وواقع الحياة في مناخ جاف.
وتخطط الهيئة وفقًا للمبادئ الـ 12 لميثاق العلا للاستدامة، إلى ابتكار نهج جديد يركز على الحماية والوقاية، بما في ذلك السياحة المستدامة، والزراعة المتوازنة، وتوفير بيئات آمنة وصحية ضمن منظومة الاقتصاد الدائري.
كما تلتزم الهيئة بذلك الميثاق في منهجها لتحقيق اقتصاد دائري، وإنشاء إطار عمل يعزز كفاءة الموارد، وتقليل النفايات، ومن خلال تطبيق مبادئه، تتبنى العلا نهجًا شاملاً للاستدامة، مبنيًا على 4 ركائز، وهي: المكونات الاجتماعية والبيئية والثقافية والاقتصادية، حيث تتكامل في جميع مستويات التنمية في العلا، سواء كانت خطة رئيسية أو مشروعًا مستقلًا.
يعتمد ضمان استدامة العلا بجزءٍ كبير على الحفاظ على الطبيعة من خلال إعادة التشجير واستعادة الحياة البرية، بالإضافة إلى الزراعة المستدامة وإدارة المياه، بما يساهم بتطوير الوجهة لتكون مركزًا ثقافيًا للزوار، وموطنًا مزدهرًا للمجتمع المحلي دون الإخلال بالتوازن الطبيعي.
واتخذت الهيئة خطواتها الأولى في هذا المجال بزراعة عشرات الآلاف من الشتلات، وإطلاق العديد من الحيوانات البرية، والبدء بتحقيق التوازن البيئي، وتهدف في المرحلة التالية بأن تصبح العلا وجهة محايدة للكربون بما يتطلب بذل جهد أكبر.
رؤية العلا
من المخطط بحلول عام 2035 أن يحقق قطاع السياحة في العلا النضج الكافي لاستقبال مليوني زائر سنويًا، والحفاظ على هذا الرقم، وهو المستوى الأمثل اقتصاديًا والمستدام بيئيًا وثقافيًا، وحددت الهيئة أهدافها بحلول ذلك العام لجعل العلا خالية من الكربون في الانبعاثات المحلية.
وبحلول عام 2035، ستنخفض البصمة الكربونية للزوار الذين يقضون 24 ساعة في العلا بنسبة تصل إلى 62% مقارنة بالسياحة التقليدية[3]، وسيساهم في ذلك وقود الطيران المستدام الذي تعتمده شركات القطاع المرتبطة بالمحافظة، والفنادق الصديقة للبيئة، والنقل الكهربائي بين الوجهات، وغيرها من الحلول المبتكرة.
كما عملت الهيئة على تطوير خطة تنقل شاملة تشمل مختلف أنحاء المحافظة، بما يساهم في زيادة استخدام وسائل النقل الخالية من الانبعاثات؛ مثل الترام الكهربائي الذي يربط المطار والمدينة والمواقع التراثية، والحافلات العامة الكهربائية والهيدروجينية، والعربات الكهربائية والدراجات الإلكترونية في الفنادق وحول المدينة القديمة.
كما نعمل على دعم الفنادق في اعتماد خيارات الطاقة المتجددة، في حين تعمل أنظمة تكييف الهواء الطبيعية في بعضها على الحفاظ على درجات الحرارة باردة طوال العام، مع الاستفادة من التهوية الطبيعية في تصميماتنا لتوفير الهواء النقي وتحقيق أعلى مستويات من الراحة.
ستقوم الهيئة بفرض معايير بيئية صارمة على الفنادق والمنازل والمكاتب والمباني الأخرى في العلا، بما في ذلك الإلزام بالحصول على شهادة من العلامات المعترف بها عالميًا مثل (LEED، وEarthCheck)، ونظام تصنيف المباني المستدامة في المملكة، وبرنامج مستدام، وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن تحصل البنية التحتية على شهادة Envision.
ومن المنتظر أن تطلق الهيئة قريبًا برنامجًا متخصصًا للحفاظ على المياه وإدارتها، مما سيضمن الاستخدام المستدام لهذا المورد القيم في الزراعة والسياحة والقطاعات الرئيسية الأخرى. بينما سيتم جمع المواد الغذائية غير المستخدمة، والتي يتم زراعة الكثير منها محليًا، وغيرها من المخلفات بواسطة شاحنات البلدية الخالية من الانبعاثات وإعادة تدويرها.
تعتمد الهيئة الملكية لمحافظة العلا نهجًا شاملاً للاستدامة ضمن خطة السياحة البيئية، تتمحور على الركائز الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية المتكاملة.
ويمثل فندق دار طنطورة من “ذا هاوس” الذي تم افتتاحه مؤخرًا نموذجًا مهمًا لمستهدفتنا في مجال السياحة والضيافة المستدامة، وسيحتوي الفندق البيئي الفاخر في البلدة القديمة على 30 غرفة ضيوف في مباني تقليدية من الطوب، تمّ تصميمها وفق أحدث المعايير الهندسية ذات التأثير المنخفض إلى جانب المواد والتقنيات المستخدمة محليًا.
يعكس دار طنطورة عمل الهيئة في تجديد البلدة القديمة، ويساهم استخدام السياحة البيئية كمحرك للتنمية عبر خلق فرص عمل جديدة ذات نتائج اقتصادية واجتماعية وبيئية بعيدة المدى من شأنها أن تؤثر بشكل إيجابي على مجتمعنا.
كما يدعم “مركز العلا للتميز في العمارة الترابية والبناء المستدام” عملنا في تطوير البناء المحايد للكربون، والهندسة المعمارية المناخية الحيوية، وجهود الحفاظ على التراث، ويتكامل مع إعادة استخدام المواد المحلية واعتماد تقنيات مجربة وموثوقة مع أساس الاقتصاد الدائري.
المستهدفات
عندما تحقق العلا مستهدفاتها في مجال البيئة والتنمية المستدامة والسياحة بحلول عام 2035، ستكون قد وصلت إلى مستوى النضج في تعزيز المشهد الثقافي والطبيعي فيها، وستكون أهم العوامل لتحقيق ذلك هي اعتماد النهج الشامل للاستدامة، والحفاظ على المياه والأراضي والتنوع البيولوجي في العلا، إلى جانب تبني الهيئة الملكية لمحافظة العلا السياحة المستدامة.
كما ستؤدي إزالة الكربون من البنية التحتية لقطاع السياحة إلى تعزيز التنوع داخل الاقتصاد المستدام الأوسع، وفتح الفرص في مجالات مثل السياحة الزراعية، ودعم المزارع المحلية والقطاعات المتخصصة الأخرى.
وستظل مكانة العلا كمركز ثقافي وتراثي عالمي أولوية ضمن طموحاتنا السياحية، ويتمثل التحدي الذي تواجهه الهيئة في تنمية العلا لتصبح وجهة جديدة لنوع جديد من السياحة، يتميز بالاستدامة والشمولية ويتمحور حول الطبيعة والثقافة فضلاً عن كونه صديقًا للبيئة يحقق التوازن معها.
بقلم وليد الدايل، رئيس قطاع الاستراتيجية والرقمية في الهيئة الملكية لمحافظة العلا