تُعتبر الاستدامة من المواضيع الرئيسية التي تتم مناقشتها حول العالم وسط التحديات الناتجة عن التغيّر المناخي وتوسع المدن وتغيّر الأولويات المجتمعية. وتشير تقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن العالم سيشهد بناء مساحات عمرانية تعادل إجمالي مساحة مدينة نيويورك كل شهر على مدار الأعوام الأربعين القادمة، ما يتطلب وضع خطط متكاملة لتحقيق الاستدامة بما يتماشى مع متطلبات حماية البيئة، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وضمان الاستقرار الاقتصادي. ويتطلب هذا التحول تغييراً شاملاً في طريقة تخطيط المدن بحيث لا تقتصر على التوسع العمراني، بل تشمل تصميم مجتمعات متكاملة تضع صحة السكان واستدامة الموارد الطبيعية في مقدمة أولوياتها.
وتجسد مبادرة “مفاتيح الحياة” التي أطلقتها أوراسكوم للتنمية في عام 2024 هذا النهج، حيث تم إجراء بحث بالتعاون مع شركة “YouGov”، وشمل أكثر من 3600 مشارك من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وتم استطلاع آراء المشاركين حول مفهوم المجتمع والعوامل التي تؤثر على جودة الحياة اليومية. وكشفت النتائج عن اهتمام واسع بالحياة المستدامة، حيث أكد 85% من المشاركين أهمية وجود عناصر طبيعية في منازلهم، بينما قال 76% منهم إنهم يفضلون المزايا الصديقة للبيئة. وتوفر النتائج رؤية واضحة تساعد على تقييم التخطيط العمراني المستدام وتطويره.
يعتمد تحقيق الاستدامة على الحفاظ على البيئة إلى حد كبير، حيث أصبح الوصول إلى المساحات الخضراء والمواقع الطبيعية من العوامل المؤثرة في تعزيز الصحة النفسية. وكشفت الدراسة أن 88% من الأشخاص يشعرون بتحسن صحتهم الذهنية عند توفر الحدائق أو المساحات الطبيعية بالقرب منهم، وهو ما يتوافق مع دراسات أخرى تربط بين القرب من الطبيعة والحد من التوتر وتحسين جودة الحياة. ويجب على مصممي المدن والمساحات العمرانية التركيز على التصاميم المستوحاة من الطبيعة والبنية التحتية الخضراء من أجل بناء مجتمعات صديقة للبيئة تتميز بتصاميم معمارية جذابة.
وينبغي على مطوري المدن المتكاملة اتخاذ الإجراءات اللازمة لدمج مبادئ الاستدامة في جميع مراحل التطوير لتحقيق أثر دائم. ونعتمد في وجهة أندرمات في جبال الألب في سويسرا، على الطاقة الكهربائية الخالية من الانبعاثات الكربونية. كما أصبحت مدينة الجونة في مصر أول وجهة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنال جائزة المدينة الخضراء العالمية المدعومة من قبل برنامج الأمم المتحدة للبيئة، حيث تجسد هذه المدن والمجتمعات المكاسب التي يمكن تحقيقها من خلال التركيز على المتطلبات البيئية في خطط تطوير وبناء المدن المتكاملة.
تضمن الاستدامة ازدهار المجتمعات مع الحفاظ على الطبيعة، حيث تُبنى المجتمعات المتماسكة على العلاقات المتينة والتجارب المشتركة. ووفقاً لبحث مبادرة “مفاتيح الحياة” من أوراسكوم للتنمية، قال 70% من المشاركين إنهم يرغبون في تعزيز التواصل مع جيرانهم وبقية أفراد المجتمع، مما يؤكد الحاجة إلى المساحات المشتركة التي تعزز العلاقات الاجتماعية.
ويتطلب التخطيط العمراني دمج المساحات المخصصة للفعاليات الثقافية والأنشطة الترفيهية والرياضية ضمن تصاميم المدن لتعزيز فرص التواصل الاجتماعي. وتشمل مبادراتنا تنظيم الفعاليات المجتمعية بشكل منتظم، مثل بطولة الرجل الحديدي في صلالة بسلطنة عمان ومهرجان الجونة السينمائي في مصر، حيث توفر هذه الفعاليات فرصاً للتواصل بين الأشخاص الذين تجمعهم الاهتمامات المشتركة. كما إن الاحتفاء بالتراث والهوية المحلية يعزز الشعور بالانتماء، مما يرسّخ الاستدامة المجتمعية التي تضمن مجتمعات شاملة ومستقرة وتثري حياة الأفراد من خلال التجارب المشتركة.
تمتاز المجتمعات المستدامة بالاكتفاء الاقتصادي إذ لا تقتصر الاستدامة على الجوانب البيئية والاجتماعية فحسب، بل تشمل أيضاً تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يتطلب الحد من الاعتماد على الموارد الخارجية وتعزيز الاقتصادات المحلية من خلال جمع المناطق السكنية والمتاجر والمرافق الصحية والتعليمية في وجهة واحدة. وتُعد الجونة مثالاً على ذلك، حيث توفر مجموعة متكاملة من الخدمات التي تلبي احتياجات السكان الأساسية دون الحاجة إلى التنقل لمسافات طويلة. ويلقى هذا النهج في تخطيط المدن اهتماماً متزايدا،ً حيث قال 81% من المشاركين في الدراسة إن المخاوف الاقتصادية تؤثر بشكل كبير على قراراتهم في شراء المنازل. ولذلك، أصبحت المجتمعات المصممة لتوفير أسلوب حياة سلس وخيارات العمل عن بُعد والخدمات المتكاملة أكثر أهمية من أي وقت مضى.
يتطلب بناء المجتمعات المستدامة تعاوناً وثيقاً بين المشرفين على الخطط والحكومات والمجتمع المدني. وتلعب الشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص دوراً أساسياً في تحقيق التكامل بين التخطيط العمراني والأهداف الاستراتيجية مع جذب الاستثمارات الدولية وتنمية الاقتصادات المحلية. كما تسهم هذه التحالفات في تعزيز الابتكار التقني ونشر مبادرات الاستدامة على نطاق واسع.
كما يجب تبنّي التحليلات القائمة على البيانات لفهم احتياجات العائلات المتغيرة في وقتنا الحالي، حيث يزداد الإقبال على العيش في المجتمعات المتنوعة التي تلبي المتطلبات المستقبلية في ظل الاعتماد المتزايد على العمل عن بُعد والمنازل التي تواكب أسلوب حياة الأجيال القادمة. وقال 78% من المشاركين في الدراسة إنهم يفضلون أسلوب الحياة المستدام، مما يشير إلى أن هذا التوجه سيظل من بين العوامل الرئيسية لتطوير المجتمعات على مدار الأعوام القادمة.
تعتمد التنمية الاجتماعية على توفير مجتمعات متكاملة تواكب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. ويجب على المشرفين على الخطط والمصممين مواصلة التطوير بالاعتماد على التقنيات الحديثة واستطلاع آراء مختلف الجهات المعنية وإعطاء الأولوية للاستدامة في جميع مراحل التخطيط العمراني. ونلتزم في مشاريعنا بمبادئ الاقتصاد الدائري من خلال التخلص من مخلفات البناء بشكل مسؤول في المواقع المخصصة من قبل الجهات الحكومية، مما يحد من الأثر البيئي لأعمالنا.
يمكننا تعميق فهمنا لأسس بناء المجتمعات من خلال البحث المستمر والتعاون المشترك، مما يتيح لنا تلبية الاحتياجات الحالية والاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل والتغلب عليها. ومن خلال تعزيز التفاعل بين الأفراد والأماكن بما يتماشى مع الأهداف العامة، يمكننا تحقيق الحياة المستدامة التي يطمح إليها الجميع وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
لمزيد من المعلومات عن مبادرات أوراسكوم للتنمية المستدامة ومبادرة “مفاتيح الحياة”، يُرجى زيارة الموقع الإلكتروني:
بقلم عمر الحمامصي، الرئيس التنفيذي لشركة أوراسكوم