لا يبدو التطبيق العملي لجوانب الاستدامة في عالم الأعمال بالسهولة التي نعتقدها عندما نتحدث عن المسألة؛ إذ تحوّل الموضوع الذي كُنا نكتفي بتناوله على عجل في التقارير السنوية أو نتطرق إليه في مجال التسويق إلى نقطة تركيز أساسية تُحرك العمليات اليومية. وبرغم اعتبار الاستدامة هدفاً جوهرياً من حيث المبدأ، تواجه العديد من الشركات في واقع الأمر العديد من التحديات لإحراز أيّ تقدم ملموس ودائم في هذا المجال. ولن تكون هذه الشركات قادرة على تحقيق أهدافها في هذا الصدد ما لم تعتمد التكنولوجيا كعنصر رئيسي في استراتيجيات الاستدامة الخاصة بها.
إن إدارة الطاقة هي خير مثالٍ في هذا الجانب؛ فقد وضعت الشركات على مدار سنوات أهدافاً غير واضحة في مجال توفير الطاقة واكتفت بالآمال لتحقيقها. غير أنّ قطاع الطاقة متنوع ولا يُلبي احتياجات الجميع بذات السوية، بالإضافة إلى ما يتسم به من تعقيدٍ وتغيرٍ مستمر. ويتعين على الشركات أن تستفيد من التكنولوجيا المتطورة لمراقبة استهلاك الطاقة في الوقت الحقيقي، إذ تسمح الأنظمة الذكية للشركات بتتبع الاستهلاك لحظةً بلحظة، فضلاً عن رصد أوجه القصور بشكل فوري، وإمكانية تعديل العمليات بمرونة. وبذلك، لم تعد هناك حاجة لانتظار التقارير أو المراجعات الفصلية للاطلاع على مستويات فاقد الطاقة، فقد بات بالإمكان إصلاح المشكلة فور حدوثها.
ومن جانبها، تطرح التكنولوجيا التنبؤية العديد من الإمكانات الواعدة، فقد اقتصرت مساعي الاستدامة سابقاً في غالبها على التدابير التفاعلية، بحيث تستجيب الشركات للمشكلات بمجرد ظهورها. غير أنّ حلول الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء تمنح هذه الشركات القدرة على التنبؤ بما يُمكن أن يحدث، مع تحديد أوجه القصور المحتملة قبل حدوثها، بما يسمح بالتحرك لتفاديها بشكل وقائي. وتُحدث هذه التكنولوجيا نقلة نوعية بالنسبة لفرق العمليات، لا سيما وأنّها ستكون قادرة على التنبؤ باحتياجات الطاقة أو استهلاك المياه أو المخلفات بشكل استباقي. كما يُمثل هذا التحوّل من الجانب التفاعلي إلى الاستباقي مستقبل الأعمال المستدامة.
وستكون النتائج المترتبة على ذلك هائلة بالنسبة للشركات؛ حيث تتيح لها التكنولوجيا تقليل النفايات وخفض التكاليف وزيادة الكفاءة. ولا يتعلق الأمر بتوفير المال فحسب، فهناك طلب كبير من المستهلكين تجاه الشركات لتحمل المسؤولية عن أثرها البيئي. ويرغب المستهلكون أكثر من أي وقت مضى في دعم الشركات التي تنسجم مع قيمهم، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الكوكب. وهنا تبرز مكانة الشركات التي تستعين بالتكنولوجيا في جعل عملياتها صديقة للبيئة، والتي ستكون بمنأى عن خطر عدم مواكبة الركب. ويبرز التحدي في أن الكثير من الشركات مترددة في اعتماد هذه التكنولوجيا، إذ أنها لا تزال ترى في الاستدامة إضافة جيدة لها وبأنّها ستعمل على تحقيقها عندما يحين الوقت لذلك. وغالباً ما ترى هذه الشركات في الاستدامة مجهوداً عالي التكلفة يتطلب الكثير من الاستثمارات، فضلاً عن تسببها في تحويل التركيز عن مجالات أخرى ذات أولوية. ولكن في الحقيقة، يُمكن للاستدامة أن تكون سبباً في توفير المال للشركات عند إدماجها بالشكل الصحيح ضمن عملياتها.
إن المباني الموفرة للطاقة، والحد من النفايات، واعتماد الخدمات اللوجستية الأكثر ذكاءً هي خطوات صحيحة في هذا الاتجاه، كما أنّ الفوائد على المدى البعيد تفوق بكثير التكاليف الأولية. وتثبت الشركات التي تتبنى هذه التقنيات أن الاستدامة والربحية ليستا متعارضتين، وإنّما متكاملتين. وستكون التكنولوجيا القوة المحركة لآلية عمل الشركات في المستقبل، وليست مشروعاً جانبياً فحسب. فإذا أردنا إرساء مستقبل مستدام، يتعين على الشركات أن تتجاوز مجرد التفكير بمبادرات توفير الطاقة، لتنتقل نحو اعتماد التكنولوجيا كحلٍّ رئيسي.
وبرغم ما تُقدمه التكنولوجيا من حلول واعدة، لا بد لنا من مراعاة عامل القيادة بوصفه جانباً أساسياً في هذه العملية. فلا يُمكن للتكنولوجيا وحدها أن تسهم في تحقيق الاستدامة، وإنّما هي بحاجة لرؤى قادة الشركات لتحديد زخم هذا المسار. ويتعين على القادة منح الأولوية للاستدامة بوصفها استراتيجية تشغيلية وجزءاً رئيسياً من الثقافة المؤسسية. ويُدرك القادة من أصحاب الرؤى التطلعية بأنّه لا يوجد ما يدعو للخوف من الاستدامة، لأنّها مسؤولية وفرصة فريدة للابتكار، كما يدركون أن تبنّي التقنيات الجديدة، بما فيها من تحديات أولية، هو استثمار ضروري في مستقبل الشركة. ويتحمل هؤلاء القادة مسؤولية تحويل التركيز من المكاسب قصيرة الأمد نحو ممارسات الاستدامة طويلة الأجل، لا سيما وأنّ هذا النوع من الفكر القيادي سيُحدد الشركات القادرة على الازدهار في المستقبل.
وإلى جانب ذلك، لا بد أن تكون الشركات مستعدة للتعاون على المستوى الداخلي وبين القطاعات المختلفة. إن الاستدامة هي جهدٌ جماعي؛ ففي حين تستطيع التكنولوجيا دعم التطور الفردي، لا توجد شركة تعمل بمعزل عن البقية، وتتطلب التحديات العالمية حلولاً عالميةً أيضاً. وستكون الشركات التي تشجع عقد علاقات الشراكة وتشارك أفضل الممارسات قادرةً على تسريع جهودها في مجال الاستدامة، فضلاً عن إمكانية الاستفادة من بعضها للتعلُّم من النجاح وتدارك الأخطاء. ويمكن لهذا التعاون أن يسهم جنباً إلى جنب مع الابتكار التكنولوجي في دفع عجلة التقدم وتحقيق التغيير المستدام. وستقتصر إنجازات الشركات دون هذه المساعي على المكاسب السطحية، وستفوّت الفرصة لإحداث أثر إيجابي طويل الأمد على البيئة.
يتمثل السؤال اليوم حول الجهة التي ستقود هذه الجهود، لا سيما في ضوء توفر الأدوات ووضوح المزايا. فقد حان الوقت لتتوقف الشركات عن التعامل مع الاستدامة كمحور هامشي، وتبدأ في منحها الأولوية التي تستحقها على مستوى العمليات. وفي حقيقة الأمر، ستتضاءل آمالنا لرسم ملامح مستقبل أفضل في حال أخفقنا في استخدام التكنولوجيا لإحداث التغيير الحقيقي المنشود.
بقلم: حيدر نظام، رئيس زوهو في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ونائب الرئيس لشؤون المنتجات