في إطار الجهود العالمية لمواجهة التغير المناخي، يبرز تمويل التحول بوصفه أداة أساسية لتعزيز التنمية المستدامة وتسريع وتيرة التحول نحو اقتصادٍ منخفض الانبعاثات الكربونية. ومع اكتساب هذا النوع من التمويل زخماً قوياً في جميع أنحاء العالم، تقف منطقة الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة مفصلية، تستعد فيها لحشد إمكاناتها نحو استكشاف الآفاق المتاحة لتعزيز الابتكار والمسؤولية البيئية وتسريع النمو الاقتصادي.
ويشير مصطلح تمويل التحول إلى جميع أشكال الدعم المالي التي تعزز مساعي إزالة الكربون وجهود تحقيق الاستدامة في مختلف الأنشطة الاقتصادية. ويحمل تمويل التحول فوائد عديدة لدول مجلس التعاون الخليجي، إذ يدعم مساعيها لتنويع الاقتصاد بعيداً عن اعتمادها التاريخي على النفط والغاز، إلى جانب رفد جهودها لخفض الانبعاثات الكربونية وتعزيز قدرتها على التصدي للتحديات البيئية العالمية.
وتدرك منطقة الخليج، التي تضم بعضاً من أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم، أهمية التحول إلى اقتصادات متنوعة ومستدامة. فقد وضعت حكومات المنطقة خططاً طموحة للتنويع الاقتصادي مع التركيز بشكل خاص على جوانب الاستدامة. ويلعب تمويل التحول دوراً محورياً في دعم هذه الخطط من خلال توفير الكفاءات ورأس المال اللازمين لتحفيز الابتكار واعتماد ممارسات الاستدامة في مختلف القطاعات.
إن أحد أبرز الأمثلة على نجاح آليات تمويل التحول في دول مجلس التعاون الخليجي يتمثل في قطاع الطاقة المتجددة، إذ ضخت دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية استثمارات كبيرة في مشاريع الطاقة المتجددة، مما يعكس اعتمادها على تمويل التحول لتسريع وتيرة تبني تقنيات الطاقة النظيفة. فعلى سبيل المثال، استقطب مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية في دولة الإمارات، أكبر مشروع استراتيجي لتوليد الطاقة المتجددة في موقع واحد في العالم، استثمارات بقيمة مليارات الدولارات من المقرضين والمستثمرين العالميين.
كما لعب تمويل التحول دوراً محورياً في دعم المبادرات الرامية لتعزيز الاستدامة في قطاع العقارات في مختلف دول مجلس التعاون الخليجي. ففي دبي على وجه الخصوص، تولى مجلس الإمارات للأبنية الخضراء قيادة الجهود الرامية لتشجيع ممارسات التصميم والبناء الأخضر، من خلال برامج مانحة للشهادات مثل شهادة الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة وشهادات برنامج استدامة. كما أتاحت آليات تمويل التحول، مثل السندات الخضراء والقروض المرتبطة بالاستدامة، للمطورين العقاريين تمويل مشاريع البناء الأخضر وتحديث المباني القائمة، بهف تعزيز كفاءة استهلاك الطاقة والحد من الانبعاثات الكربونية.
وبدوره، يوفر قطاع النقل في منطقة الشرق الأوسط بيئة خصبة لتوظيف إمكانات تمويل التحول في تعزيز حلول النقل المستدام، لا سيما مع استمرار التوسع الحضري وتنامي المخاوف المتعلقة بالازدحام وتلوث الهواء. وفي هذا السياق، تستثمر حكومات المنطقة في تطوير البنية التحتية للنقل العام ومحطات شحن المركبات الكهربائية وإطلاق مبادرات النقل المستدام، حيث تعتمد على أدوات تمويل التحول، مثل السندات الخضراء وصناديق البنية التحتية، لبناء أنظمة نقل أكثر كفاءة واستدامة.
ويسهم تمويل التحول أيضاً في دعم الزراعة المستدامة ومبادرات الأمن الغذائي في دول الخليج، التي تستثمر في تطوير حلول مبتكرة مثل الزراعة المائية والزراعة العمودية والزراعة في الصحراء لمعالجة تحديات الإنتاج الزراعي الشائعة في المنطقة، مثل التصحر وشُح المياه. كذلك تسهم صناديق الاستثمار المؤثر وسندات الزراعة المستدامة، التي تندرج ضمن آليات تمويل التحول، في حشد رأس المال اللازم لدعم هذه المبادرات وتعزيز الأمن الغذائي مع الحد من المخاطر البيئية.
وتشهد المنطقة كذلك انتشار أدوات ومنصات مالية مبتكرة تهدف إلى توسيع نطاق تمويل التحول عموماً. ففي السعودية على سبيل المثال، تسعى مبادرة السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر إلى حشد تمويل بقيمة 15 و20 مليار دولار أمريكي على التوالي، وتوجيهها نحو المشاريع والمبادرات الخضراء خلال السنوات القادمة. وتؤكد هذه المبادرات التزام حكومات المنطقة بالانتقال إلى اقتصادات متنوعة ومرنة.
ومن جانبها، تُظهر شركات القطاع الخاص في منطقة الشرق الأوسط وعياً متزايداً بأهمية تبني مبادئ الاستدامة في استراتيجياتها وعملياتها التجارية. وتستفيد هذه الشركات في مختلف القطاعات من تمويل التحول لدعم استثماراتها الخضراء وتطبيق ممارسات الاستدامة والامتثال للمعايير العالمية في مجال المسؤولية البيئية والمجتمعية والحوكمة. كما يمكن للشركات توظيف أدوات تمويل التحول، مثل القروض المرتبطة بالاستدامة والسندات الخضراء، للحصول على التمويل اللازم لدعم أعمالها والوفاء بالتزاماتها البيئية والاجتماعية في الوقت نفسه.
وأصدر معهد المحللين الماليين المعتمدين في وقت سابق تقريراً بعنوان استكشاف آفاق تمويل التحول: قائمة التدابير. ويقدم التقرير للمؤسسات الاستثمارية مجموعة من التوصيات القابلة للتنفيذ، بما يشمل تحديد أهداف واضحة لإزالة الكربون ضمن محفظاتها وإصدار التقارير حول التقدم المحرز في هذا المجال، إضافة إلى اعتماد آليات شفافة لإعداد التقارير. ويوصي التقرير الشركات بإصدار خطط انتقالية موثوقة توضح الجدوى الاقتصادية لتحقيق أهداف إزالة الكربون، بالإضافة إلى تسليط الضوء على نتائج مساعي إزالة الكربون ضمن سجل الأداء المتوازن لمكافآت المسؤولين التنفيذيين من أجل تحفيز المساءلة وتعزيز الجهود. كما يشجع التقرير الحكومات والجهات التنظيمية على تنسيق جهودها لمواءمة إفصاحات خطة التحول، وإنشاء تصنيفات معتمدة للتحول، إلى جانب توسيع عمليات التمويل العام لاستقطاب مزيد من استثمارات القطاع الخاص في مشاريع التحول، وتطوير منهجيات مبتكرة -مثل المناقصات وبنوك التحصيل- لإدارة التحول التدريجي بشكل فعال.
إن الفرص التي تقدمها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال تمويل التحول لا حدود لها. وفيما تواصل الحكومات والشركات والمستثمرون التركيز على ممارسات الاستدامة والعمل المناخي، يستمر تمويل التحول بلعب دور محوري في دعم مساعي المنطقة لبناء مستقبل مستدام. ومن خلال الاستفادة من آليات التمويل المبتكرة والتعاون الوثيق مع الشركاء، يمكن لدول المنطقة الاستفادة من الفرص التي يقدمها تمويل التحول لبناء اقتصادات تتسم بالشمولية والمرونة والمسؤولية البيئة، بما يحقق مصلحة الأجيال القادمة.
بقلم: بول مودي، المدير العام للشراكات العالمية وحلول العملاء، معهد CFA.