شهدت السنوات القليلة الماضية تحوّلاً جذرياً في رغبة المستثمرين بإقامة شراكات تراعي المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، والتي باتت تنصّ عليها خطط التنمية العالمية وبخاصّة في أعقاب انعقاد النسخة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28).
ويوماً بعد يومٍ، باتت تجتمع الحكومات والشركات على موقف مشترك حيال ضرورة مواجهة تحديات التغير المناخي الآنية، لضمان الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية في المدى البعيد. وبالرغم من ذلك، ما زلنا لا نرى تغييراً موحّداً في هذا الإطار، حيث أنّ الهيئات التنظيمية في الكثير من دول العالم ما زالت تقف اليوم أمام وضع أزمة التغير المناخي ضمن أولويات الشركات واعتبارها من العوامل الناشئة التي تؤثر على قراراتها الاستثمارية.
لكنّ هذا الواقع بدأ يتحوّل تدريجياً نحو تفعيل استراتيجيات العمل المناخي ومبادراته، حيث تُعدّ العديد من الدول بما فيها دولة الإمارات العربية المتحدة مثالاً يُحتذى به على صعيد الإسهام بشكل فاعل في تسريع وتيرة التحوّل نحو صنع القرارات التي تراعي المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة.
وتجدر الإشارة هنا على سبيل المثال إلى دراسة صادرة عن مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية في ديسمبر الماضي، والتي تُظهر أنّ المصارف الأوروبية باتت تفرض معدلات فائدة أعلى من غيرها على القروض الممنوحة للشركات القائمة ضمن المناطق المعرّضة بشكل كبير لخطر الفيضانات[1]. وقد يكون هذا التوجّه مؤشراً صغيراً على الدور الذي تلعبه المخاطر البيئية، والتي كان قد حذّر المنتدى الاقتصادي العالمي من احتمالات وصولها إلى نقطة اللاعودة خلال السنوات المقبلة، مما قد يرغم المؤسسات المالية على فرض معدلات فائدة مختلفة على أنواع محدّدة من القروض في المستقبل.
وبذلك، باتت الحاجة إلى دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة بالخطط الاقتصادية المستقبلية من الضرورات المسلّم بها جدلاً، في ظلّ توجّه المستثمرين المتزايد نحو إيجاد التوافق اللازم بين محافظهم الاستثمارية وأهدافهم المرتبطة بالاستدامة.
الدوافع التنظيمية
باتت تستحوذ الاستثمارات في مجال إزالة الكربون اليوم على حصّة أكبر من تدفقات التمويل العالمية، في ظلّ اضطرار الحكومات إلى إيجاد حلول سريعة وفعّالة لأزمة الغير المناخي الملحّة. فقد تجاوزت التزامات النفقات الرأسمالية لمشاريع الطاقة النظيفة 1.7 تريليون دولار أميركي في عام 2023، وذلك وفقاً لتقديرات مستقلة من وكالة الطاقة الدولية وشركة “بلومبرج إن إي إف”.
وبفضل استقرار أسعار الفائدة، ارتفعت إصدارات الديون التي تخدم أهداف التحوّل في قطاع الطاقة بنسبة 4% لتصل إلى 824 مليار دولار أميركي العام الماضي. وقد سجّل قطاع الخدمات المالية والقطاع الحكومي لوحدهما أكثر من 316 مليار دولار أميركي على شكل ديون تهدف إلى تمكين التحوّل ضمن قطاع الطاقة في عام 2023.
وتعكس هذه الاستثمارات الدور المحوري الذي ستلعبه مبادرات إزالة الكربون في المستقبل القريب وأثرها الملحوظ على قرارات المستثمرين. وبالتالي، لا شكّ في أنّ هذه المبادرات سوف تؤدي إلى تغيير النظرة الحالية تجاه الامتثال للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة باعتباره قيمة مضافة ليصبح خدمة يمكن للشركات أن تتقاضى رسوماً مقابل توفيرها، وبخاصّة في ظلّ توجّه المستثمرين نحو الأصول المصنّفة على أنها أصول خضراء للوفاء بالتزاماتها المرتبطة بتحقيق الحياد المناخي خلال العقدين أو ثلاثة عقود مقبلة.
وأشار 56% من 800 مستثمر شاركوا في استطلاع قامت به مجموعة “ديفير” إلى أنّهم يعتزمون تعزيز استثماراتهم المتركّزة حول المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في عام 2024، في حين أشارت شركة “جرانت ثورنتون” العام الماضي إلى أنّ 85% من الجهات المقرضة في المملكة المتحدة والمشاركة في الاستطلاع تعتقد أنّ إنجازات الشركات على صعيد المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة وقدرتها على تحقيق الحياد المناخي المنشود تؤثر بالطبع على تقييم المخاطر الائتمانية الخاصّة بها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اعتبارات المستثمرين والأولويات الاستراتيجية للحكومات تسهم في تعزيز أطر العمل الخاصّة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في منطقة الشرق الأوسط والارتقاء بها. ولا شكّ في أنّ الأنظمة تلعب دوراً محورياً في هذا التحوّل، حيث بادرت الأسواق الإقليمية الكبرى إلى إيجاد سُبُل وحوافز قوية لجذب المزيد من الاستثمارات لتنفيذ مبادرات إزالة الكربون. وينعكس ذلك أيضاً في دولة الإمارات من خلال الحصول على التمويل اللازم عبر وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدّمة، للاستثمار في مجال الطاقة المتجدّدة أو النظيفة[2].
وتنطوي الرقابة الحكومية على بعدين أساسيين، حيث أشار استطلاع أجرته شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” في الشرق الأوسط إلى أنّ 63% من قادة الشركات الإقليمية يعتبرون أنّ الامتثال للأنظمة الحكومية هو الدافع الأبرز لتبنّي الاستراتيجيات التي تراعي المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة[3]. وقد أصدرت العديد من أسواق البورصة الإقليمية، بما في ذلك بورصة قطر والبحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، إرشادات بشأن إعداد ورفع التقارير المرتبطة بمعايير الاستدامة وأوراق الاعتماد ذات الصلة بها.
ويجب ألا ننسى أنّ حكومات دول المنطقة والعالم على حدّ سواء تلعب دوراً على القدر نفسه من الأهمية في ما يتعلق بالحدّ من الظاهرة الجديدة المعروفة اليوم بظاهرة “الغسل الأخضر”. وتشير شركة “ريب ريسك” السويسرية إلى أنّ واحداً من كلّ أربعة مخاطر للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة المرتبطة بالمناخ حول العالم ارتبطت بظاهرة الغسل الأخضر بين عامي 2022 و2023، حيث أشار قطاع الخدمات المصرفية والقطاع المالي إلى زيادة بنسبة 70% في عدد الحوادث ذات الصلة بالغسل الأخضر المرتبط بالمناخ في عام 2023
. وهنا تزداد أهمية تشديد الرقابة والالتزام بالأنظمة الحكومية الصارمة التي تسهم في تعزيز الشفافية وتحمّل المسؤولية المتكافئة تجاه إعداد ورفع التقارير المرتبطة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، في ظلّ استمرار نمو الإنفاق المرتبط بالاستدامة.
الدوافع التجارية
بالرغم من نجاح النسخة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28) في وضع مبادرات إزالة الكربون على رأس الأولويات الاقتصادية وخطط عمل الشركات حول العالم، لا زالت تتعرض تقييمات الامتثال للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة اليوم لشكوك جوهرية من جانب صنّاع القرار الذين يفضّلون تجنّب المخاطرة.
ومع ذلك، قد يسهم الاستثمار في مبادرات إزالة الكربون، التي باتت تحظى يوماً بعد يومٍ بثقة متزايدة نظراً لما يعود به ترشيد استهلاك الطاقة من فوائد ملموسة على الشركات، في دعم وتسهيل التوجّه نحو اعتماد المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة على نطاق أوسع للحصول على رؤوس الأموال اللازمة بأقلّ تكلفة ممكنة.
ويشير ما يقارب ثلث المشاركين في استطلاع شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” في الشرق الأوسط إلى أنّ القيود المفروضة حالياً على التمويل هي من العوامل التي تعيق تطبيق المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، في حين يتوقّع 13% فقط منهم الحصول على قروض خضراء من المصارف في المستقبل. وقد يبدو ذلك غير منطقياً في ظلّ النتائج التي أعلنت عنها شركة “مورغان ستانلي كابيتال إنترناشونال” والتي تُظهر أنّ الشركات التي تحظى بمؤشر مرتفع للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة تتحمّل تكاليف رأسمالية منخفضة مقارنةً بأقرانها من الشركات التي تحظى بمؤشر منخفض.
ولكنّ ذلك يعكس بشكل جزئي الحاجة إلى رفع الوعي بمفهوم التمويل الأخضر على مستوى المنطقة، لا سيّما في ظلّ اكتساب المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة المزيد من الأهمية كسبيل فعّال لدمج المرونة والجهوزية باستراتيجيات استجابة الشركات للأزمات العالمية، بما في ذلك أزمة التغير المناخي الملحّة.
باختصار، يترافق التحوّل نحو عمليات تجارية خالية من الكربون بشكل ملحوظ مع حاجة قادة الأعمال وصنّاع القرار للتعامل مع معطيات تنظيمية معقّدة ومتغيرة باستمرار، فضلاً عن ضرورة إحداث تغيير جذري على مستوى ثقافة عمل الشركات لدعم مثل هذا التحوّل. وبالطبع، لا يُعدّ ذلك هدفاُ سهل المنال، لكنّ الشركات المستقبلية الناجحة ذات الأثر الإيجابي الأكبر هي التي تطمح بشكل دؤوب إلى تحقيق قيمة مستدامة للمساهمين، من خلال سعيها المستمرّ للتميّز على صعيد دمج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة باستراتيجيات عملها اليومية.
بقلم: جون أوسيفيدس، الرئيس التنفيذي للمجموعة بشركة الغرير للاستثمار