لسنوات عديدة، وضع الاتحاد الأوروبي نفسه كزعيم عالمي في مجال الاستدامة، من خلال تنفيذ القواعد التنظيمية المناخية الحازمة التي أعادت تشكيل مختلف القطاعات. تضع مبادرات مثل توجيه تقارير استدامة الشركات، وآلية تعديل حدود الكربون معايير عالية للشركات العاملة ضمن نطاق اختصاصها. ومع ذلك، مع تصاعد الضغوط التنظيمية، أعربت الصناعات عن مخاوفها بشأن القدرة التنافسية، وأعباء التكلفة، والجدوى الاقتصادية. يشير تقديم الحزمة الخضراء الشاملة إلى اعتراف الاتحاد الأوروبي بهذه التحديات، ويمثل تحولاً عملياً في أجندة الاستدامة.
تراجع تنظيمي أم تكيف ضروري؟
تهدف حزمة السياسات الخضراء إلى تسهيل متطلبات الامتثال على الشركات، لا سيما فيما يتعلق بـتوجيهات تقرير الاستدامة المؤسسية، وقواعد التصنيف البيئي للاتحاد الأوروبي، وتوجيهات العناية الواجبة في الاستدامة المؤسسية. ويأتي هذا القرار استجابةً لضغوط متزايدة من الشركات والهيئات التجارية الأوروبية، التي ترى أن متطلبات الاستدامة المعقدة تقيد النمو والابتكار والمرونة الاقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت دراسة حديثة أن أكثر من ٦٠٪ من الشركات تعتبر اللوائح التنظيمية عائقًا أمام الاستثمار، مما يسلط الضوء على العبء الكبير الذي تفرضه متطلبات الامتثال على العمليات التجارية.
لطالما كان تحقيق التوازن بين المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة وبين قدرة أوروبا الصناعية على المنافسة تحديًا معقدًا، لا سيما في ظل التحولات المستمرة في ديناميكيات التجارة العالمية. ومع تصاعد المخاوف بشأن الأعباء التنظيمية والضغوط الجيوسياسية المتغيرة، يعمل الاتحاد الأوروبي على إعادة ضبط استراتيجيته لضمان استمرار ازدهار صناعاته مع التقدم نحو أهدافه طويلة الأجل في مجال الاستدامة.
الضغط الأمريكي وعامل الرئيس ترامب
إلى جانب هذه التحديات، انسحبت الولايات المتحدة – في ظل الإدارة الثانية للرئيس ترامب – مرة أخرى من التزامات المناخ العالمية، بما في ذلك اتفاقية باريس. ومع ذلك، فإن المشهد التنظيمي في عام ٢٠٢٥ يختلف جذريًا عن عام ٢٠١٦ ، حيث أصبحت السياسات البيئية والاجتماعية والحوكمة متجذرة بعمق في الأنظمة المؤسسية والمالية حول العالم.
وعلى عكس نهجه السابق، يستخدم ترامب السياسة التجارية كأداة ضغط، حيث يهدد بفرض تعريفات جمركية على الشركات الأوروبية التي تمارس أعمالًا تجارية في الولايات المتحدة، بهدف دفع الاتحاد الأوروبي إلى تخفيف قيوده التنظيمية. وقد دفعت هذه المناورة الجيوسياسية الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم إطار الاستدامة لضمان التنافسية الاقتصادية، مع الحفاظ على التزاماته البيئية.
دروس حزمة التنقيح
يعكس تحول الاتحاد الأوروبي في استراتيجيته دروسًا مهمة:
– تجنب التجاوز التنظيمي: قد يؤدي فرض لوائح صارمة دون مراعاة الجدوى الاقتصادية إلى نتائج غير مقصودة، مثل مقاومة الشركات، وهروب رؤوس الأموال، وعدم الكفاءة التشغيلية.
– سياسات استدامة مرنة: تصبح الالتزامات الكبرى أقل فعالية إذا لم تستطع الشركات الامتثال لها دون الإضرار بالنمو. لذا، يجب أن تكون السياسات متكيفة مع القدرات والظروف المختلفة.
– القدرة التنافسية في السياسة المناخية: يجب أن تسير التنمية المستدامة جنبًا إلى جنب مع الاستقرار الاقتصادي، وليس على حسابه. ومن الضروري ضمان أن السياسات لا تعيق قدرة أوروبا الصناعية على المنافسة، لتحقيق نجاح طويل الأمد.
الاستدامة دون البراغماتية غير مستدامة
يؤكد تصحيح مسار الاتحاد الأوروبي على حقيقة أوسع: الاستدامة من دون البراغماتية غير قابلة للاستدامة. يجب على صناع السياسات إدراك أن تحقيق الأهداف المناخية أمر بالغ الأهمية، لكن تنفيذها يجب أن يراعي القيود الاقتصادية والقدرة التنافسية.
لا تزال زعامة الاتحاد الأوروبي في مجال الاستدامة قائمة، إلا أن استعداده لإعادة المعايرة يعكس فهمًا واضحًا بأن الطريق إلى مستقبل أكثر خضرة يجب أن يكون مستدامًا اقتصاديًا أيضًا.
وبينما يقوم الاتحاد الأوروبيبتعديل تفويضاته الصارمة المتعلقة بالبيئة والاستدامة، يبقى أمر واحد واضحًا: لم تعد الاستدامة مجرد طموح، بل أصبحت مسألة تنفيذ فعال – والتنفيذ الفعال يتطلب الواقعية.
بقلم: منعم بن للاهم، الرئيس التنفيذي للمجموعة والشريك المؤسس لشركة سستينابل سكوير