يحظى مفهوم الاستدامة حالياً باهتمام وتقدير كبير على كافة المستويات و في كافة المجالات لاسيما في المجالات التكنولوجية حيث يلعب دوراً محورياً في دعم هذا القطاع، فالتوقعات المتزايدة من العملاء والموظفين والمستثمرين تفرض على الشركات ضرورة تحقيق قدر عال من المسؤولية والابتكار فيما يتعلق بالحفاظ على كوكبنا، إذ إنّ تغيّر النظرة السائدة تجاه الاستدامة يحولها من مجرد قضية اهتمام عابرة إلى عامل محوري يضمن نجاح شركات قطاع التكنولوجيا أو يقود إلى الفشل.
وقد لوحظ في السنوات الأخيرة قيام العملاء بانتقاء مشترياتهم بحذر بما يتوافق منها مع قيمهم وقناعاتهم، حيث كشف استطلاع للرأي أجرته شركة “آي.بي.إم” عام 2020 أن قرابة 60٪ من المستهلكين يرغبون في تعديل عاداتهم الشرائية لتقليل تأثيرهم السلبي على البيئة، مما يشير إلى ازدياد الطلب على المنتجات والخدمات التي تدعم مفهوم الاستدامة.[1] كما كشفت دراسة أخرى أجرتها منصة “كابتيرا” العام الماضي (٢٠٢٢) عن مدى استعداد المستهلكين لشراء المنتجات المستدامة حتى و إن كانت بثمن أعلى من غيرها بالرغم من حالة التضخم التي تشهدها الأسواق.[2] كما أظهرت الدراسة أن 32٪ من المستهلكين يرون أن أسعار المنتجات المستدامة منطقية، بارتفاع بلغت نسبته 16٪ مقارنة بعام 2021. وكشفت الدراسة أيضاً عن أن 84٪ من المستهلكين قد فضلوا شراء منتجات تراعي معايير الاستدامة خلال الأشهر الستة الماضية مقارنةً بنسبة 67٪ في عام 2021.
الاستدامة: استثمارٌ واعد لمستقبل الشركات
تشير النتائج سالفة الذكر إلى تصاعد الطلب على المنتجات المستدامة بين أواسط المستهلكين، وعليه فإن تبني شركات التكنولوجيا لمبدأ الاستدامة في عملياتها الإنتاجية ينعكس ايجاباً على جذب المزيد من العملاء المهتمين بالبيئة ويعزز الصورة الإيجابية للعلامة التجارية في نظرهم، ما يعني زيادة ولاء العملاء لهذه العلامة التجارية وتنامي انتشارها في الأسواق.
ولا تقف آثار الاستدامة عند العملاء فقط، حيث تشير التوقعات ان أبناء جيل الألفية سيشكلون ما نسبته 75٪ من القوى العاملة بحلول عام 2025، حيث يتميز هؤلاء برغبتهم المتنامية في العمل في شركات ذات أهداف إيجابية تساهم في تحسين حالة المجتمع.[3] وهذا ما انعكس بشدة على اشتعال فتيل المنافسة بين شركات التكنولوجيا على توظيف أصحاب الكفاءات، حيث ينجذب هذا الجيل من الموظفين للعمل لدى الشركات الملتزمة بتقليل أثرها السلبي على البيئة، والتي تتوافق بذلك مع مبادئهم الشخصية. يشير هذا التحول الديموغرافي إلى وجود تنافسٍ واضح على ضمّ أصحاب الكفاءات، وبهذا يمكن أن يكون تبنّي مفهوم الاستدامة عاملاً محورياً في حسم التنافس بين الشركات على توظيف الكفاءات، إذ تستطيع شركات التكنولوجيا من خلال الالتزام بالإجراءات التي تضمن تحقيق الاستدامة جذب القوى العاملة الناشئة، إلى جانب تعزيز استمرارية الموظفين بالعمل لديها وامتلاك قوة عاملة تتميز بالحماس والتفاني.
علاوةً على ذلك، يتوافق مفهوم الاستدامة مع اهتمامات شريحة متزايدة من المستثمرين ذوي الحس العالي بالمسؤولية المجتمعية،[4] حيث ينظر هؤلاء المستثمرين إلى الاستثمار في الشركات التي تتبنى مفهوم الاستدامة على أنه استثمار واعد و يمهد الطريق نحو مستقبل أفضل، مما يجعل هذه الشركات حاضنات جاذبة للمستثمرين. كما يمكن لشركات التكنولوجيا التي تضع الاستدامة على سلم أولوياتها و أن تحظى على فرصة أكبر للحصول على مصادر تمويل و تحقيق أسعار أعلى لأسهمها و امتلاك قاعدة مستثمرين أكثر استقراراً.
دور قطاع التكنولوجيا في تحقيق الاستدامة
تلعب التكنولوجيا دوراً أساسياً في تحريك عجلة النمو الاقتصادي والابتكار في الشرق الأوسط،[5] لكن في المقابل، تزيد الصناعات التكنولوجية من تفاقم المشاكل البيئية بشكل كبير، لا سيما التغير المناخي،[6] ومع ذلك، هناك جانب مشرق لا يمكن إهماله يكمن في قدرة الصناعات التكنولوجية على إحداث نقلة نوعية في النهج الذي تتبعه وبالتالي تقليل بصمتها البيئية ما يجعلها مثالاً يحتذى به على صعيد تحقيق الاستدامة. وتتمثل الخطوة الأولى نحو تحقيق هذه النقلة النوعية بتعزيز ترشيد استهلاك الطاقة، إذ يمكن أن يؤدي استخدام مراكز البيانات الموفرة للطاقة و التقنيات المقترنة بها إلى خفض استهلاك الطاقة في الصناعات التكنولوجية إلى حدٍ كبير، ويتضمن هذا الترشيد توظيف أحدث الخوادم ونظم المحاكاة الافتراضية وإدارة البنية التحتية لمركز البيانات و مصادر طاقة عالية الكفاءة، بالإضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي و التعلم الآلي (Machine Learning) ، بالإضافة للاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
شركة آكسس كوميوتنيكيشنز: دراسة حالة (Case Study)
يمكن لشركات التكنولوجيا أن تلعب دوراً محورياً في دعم الجهود الهادفة لبناء اقتصاد أخضر (Green economy) من خلال تبنيها نهج متعدد المسارات، حيث يمكنها ابتكار تقنيات موفرة للطاقة، من أجهزة وبرامج، وبالتالي تقليل استهلاكها للطاقة، كما يمكنها تصميم منتجاتها بطريقة تضمن اداء لأطول فترة ممكنة مع الأخذ بعين الاعتبار قابليتها للإصلاح وإعادة التدوير، ما يسهم في معالجة مشكلة النفايات الإلكترونية المتفاقمة. بالإضافة لما سبق، يمكن لهذه الشركات تيسير العمل عن بعد من خلال الأدوات الرقمية المناسبة، ما يسهم بشكل كبير في تخفيض انبعاثات الكربون من خلال تقليل التنقل اليومي للموظفين وخفض الطاقة التشغيلية التي تحتاجها مكاتبهم.
اما تعزيز الاستثمارات في التقنيات الصديقة للبيئة كالتقنيات التي تحسن إمكانية تخزين الطاقة المتجددة أو تقلل من انبعاثات غازات الدفيئة، فهي أحد الحلول الأخرى التي يمكن أن تثمر عن نتائج بيئية وإيجابيةً. تستطيع شركات التكنولوجيا دعماً للجهود المذكورة أن ترسخ مبدأ الشفافية من خلال صياغة الأدوات التي تمكن الشركات من مراقبة تأثيرها على البيئة بدقة، ما يسمح بتعميم السياسات المستدامة وتبنيها على نطاق أوسع.
وختاماً لما سبق، يمكن للشركات تقليل النفايات الناتجة عن عملياتها الإنتاجية بشكل أكبر من خلال التعامل مع موردي السلع الداعمين للسياسات الصديقة للبيئة والتحول من الاعتماد على المنتجات المادية إلى الخدمات الرقمية. هذا النهج “الأخضر” لن يفيد كوكبنا فحسب، بل يمكن أن يؤدي أيضاً إلى خفض التكاليف وإيجاد فرص عمل جديدة.
وفي مثال عملي يوضح كيفية قيام إحدى شركات التكنولوجيا بإحداث التغييرات المطلوبة، أطلقت شركة “آكسس كوميونيكيشنز” خطة عمل واضحة تحمل أهدافاً ذكية و واضحة، تهدف إلى تحقيق تحول كامل نحو استخدام الطاقة المتجددة لتشغيل مراكز التصنيع والخدمات اللوجستية بحلول عام 2030، إضافةً الى تضمين جميع منتجات آكسس لـــــ 20٪ من البلاستيك المتجدد المصنّع من الكربون بحلول عام 2024. وإلى جانب أهدافها البيئية، تعطي شركة آكسس الأولوية لإنتاج منتجات مستدامة مع المحافظة على كفاءة ترشيد استهلاك الطاقة من خلال تصميم مصادر طاقة تحد من الانبعاثات، لا سيما الانبعاثات الحرارية.
الاستدامة: سبيل الشركات نحو النجاح
هناك فرصة كبيرة أمام الصناعات التكنولوجية لتكون الرائد في تبني معايير الاستدامة و المساهمة في بناء المدن و المجتمعات المتطورة التي تواكب التنقل الحضري و تضمن صحة ورفاهية الأفراد. ومن هذا المنطلق، بات السعي نحو تحقيق الاستدامة ضرورةً استراتيجيةً تضمن فوائد اقتصادية كبيرة لجميع المهن والقطاعات في كافة أنحاء الشرق الأوسط، إذ لا تقف النتائج الإيجابية للاستدامة على تحسين سمعة الشركات فحسب، بل تدعم أدائها المالي، فلكما احتلت الاستدامة مكانة أعلى في الشركات، كلما زادت تنافسيتها وبالتي تميزها ونجاحها في قطاع الأعمال.
بقلم (أتول راجبوت)، مدير قسم شؤون الشركاء و العملاء في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، شركة “آكسس كوميونيكيشنز”
[1] https://www.ibm.com/downloads/cas/EXK4XKX8
[2] المستهلكون على استعداد لدفع المزيد مقابل المنتجات المستدامة على الرغم من التضخم ، وفقا ل Capterra | بزنيس واير
[3] جيل الألفية والجيل Z: حان الوقت لإعادة تشكيل الشركات لتسخير قوتها (forbes.com)
[4] https://www3.weforum.org/docs/WEF_The_Global_Risks_Report_2022.pdf
[5] https://www.weforum.org/agenda/2023/04/ai-ecommerce-megatrends-shaping-the-future-of-middle-east/
[6] https://www.forbes.com/sites/alanohnsman/2023/03/04/current-climate-big-techs-massive-carbon-footprint/