تشهد العديد من مدن الشرق الأوسط نهضة كبيرة في مشاريع البنية التحتية، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على مواد مثل الصلب و الأسمنت و البتروكيماويات و الألمنيوم. ورغم تنامي الطلب على هذه المنتجات الأساسية، إلا أن عمليات إنتاجها تواجه تحديات كبيرة تتعلق بإزالة الكربون.
وعلى مستوى العالم، فإن قطاع الصناعات الثقيلة يُنتج وحده نحو ربع انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، مع توقعات بارتفاع هذه النسبة في المستقبل.
ويساهم هذا القطاع بنسبة أكبر في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في بعض مناطق العالم. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، تصل حصة مساهمة هذا القطاع الصناعي الحيوي في الانبعاثات إلى نحو 46%.
ومع زيادة الضغوط على دول العالم للالتزام بأهداف اتفاقية باريس للمناخ، أصبح من الضروري إيجاد حلول مُستدامة في دول مجلس التعاون الخليجي لمعالجة هذا الأمر. يستكشف هذا المقال التحديات والفرص والحلول المتعلقة بإزالة الكربون من الصناعات الثقيلة في دول مجلس التعاون الخليجي.
تحديات إزالة الكربون في الصناعات الثقيلة بدول مجلس التعاون الخليجي
تُعد الصناعات الثقيلة جزءاً أساسياً وحيوياً من اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، لكنها تواجه تحديات معقدة في مجال إزالة الكربون، ترتبط بشكل أساسي بعمليات الإنتاج.
وتتطلب عملية الإنتاج في العديد من الصناعات الثقيلة درجات حرارة عالية، والتي يتم توليدها غالباً من خلال عملية حرق الوقود الأحفوري، وتنطوي على تفاعلات كيميائية كثيفة الكربون. فإنتاج الصلب والأسمنت والبتروكيماويات يتم عند درجة حرارة تصل إلى أكثر من ألف درجة مئوية، مما يُنتج عنه انبعاثات كبيرة من خلال أفران الصهر والتكليس وعمليات التكسير بالبخار. وعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة في دولة الإمارات العربية المتحدة أن 525 كجم من إجمالي 709 كجم من ثاني أكسيد الكربون المنبعثة لكل طن من الإسمنت تُنتج بسبب عملية التكليس التي تعتمد على الفحم.3 ونتيجة لذلك، فإن إزالة الكربون من هذه الصناعات الثقيلة غالباً ما تتطلب تغييراً جذرياً في عمليات الإنتاج.
وهناك تحديات أخرى تواجه المنطقة تتعلق بالكميات الكبيرة من المياه التي يستهلكها قطاع الصناعة، رغم ضعف تأثيرها على الانبعاثات. وتستحوذ دول مجلس التعاون الخليجي على نسبة 40% من القدرة الاستيعابية لنشاط تحلية المياه على مستوى العالم4، حيث تعتمد هذه العمليات بشكل شبه كامل على الوقود الأحفوري.5 وتُعد عملية تحلية المياه، التي تُوفر 70% من احتياجات المياه في المملكة العربية السعودية، أحد القطاعات الستة المستهدفة لإزالة الكربون في المملكة،6 كما أن الاحتياجات الصناعية تمثل 8% من إجمالي استهلاك المياه في المملكة.7 بالإضافة إلى ذلك، تفرض طبيعة مناخ دول مجلس التعاون الخليجي اعتماد أنظمة تبريد وتنقية هواء تتطلب استهلاكاً كبيراً للطاقة لدعم العمليات الصناعية.
كما أن المراكز الصناعية المنتشرة في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي تتطلب شبكات نقل كثيفة الانبعاثات. ورغم وجود بعض خطوط السكك الحديدية التي تربط بعض المراكز الصناعية، إلا أن شبكات السكك الحديدية العابرة لدول المجلس لا تزال قيد الإنشاء.8 علاوة على ذلك، وبالرغم من الطلب الدولي الكبير على المنتجات الصناعية من المنطقة، فإن الأسواق الرئيسية لها تقع في الخارج.
السياسات والابتكارات التقنية الخضراء لدعم الصناعات الثقيلة
اتخذت دول مجلس التعاون الخليجي خطوات طموحة لتسريع التحول نحو الاستدامة. ففي المملكة العربية السعودية، تهدف المبادرة الخضراء إلى تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2060، مع الاعتماد على مصادر متجددة لتوليد 50% من الطاقة بحلول عام 2030.9 كما وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة، إطاراً قانونياً شاملاً لتحسين كفاءة الطاقة وزيادة استخدام الطاقة المتجددة وحماية المصارف الكربونية الطبيعية وتوسيع نطاق تقنيات التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه (CCUS)، لدعم هدف تحقيق صافي صفر انبعاثات بحلول عام 2050.10 وفي سلطنة عُمان، تستهدف رؤية عُمان 2040 توليد 30% من الكهرباء من مصادر مُتجددة بحلول عام 2030، مع تطوير الهيدروجين الأخضر لتعزيز مكانة الدولة كلاعب رئيسي في السوق العالمية.11
وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي رائدة في مجال الابتكارات التقنية الخضراء. ويُعد مصنع الهيدروجين الأخضر في “نيوم” بالمملكة العربية السعودية الأكبر عالمياً، ومن المتوقع أن ينتج أكثر من 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً بحلول عام 2026، على شكل أمونيا خضراء يمكن نقلها بسهولة وكفاءة للأسواق الأخرى.
كما تتوسع تقنيات التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه (CCUS)في المنطقة، حيث يُلتقط نحو 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً عبر مشروع العثمانية في المملكة العربية السعودية. وفي الوقت نفسه، تُعد منشأة الريادة في أبوظبي أول منشأة تجارية بالكامل في العالم لالتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه لصناعة الحديد والصلب.13 وتشهد دولة الإمارات العربية المتحدة مشاريع طاقة مُنخفضة الانبعاثات الكربونية، مثل محطة براكة للطاقة النووية التي ستولد 5.6 جيجاوات بحلول 2030، ومجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية الذي سيولد 5 جيجاوات أخرى بحلول نفس العام. إلى ذلك، تستخدم شركة الإمارات العالمية للألمنيوم في دبي جزءاً من هذه الطاقة الشمسية لإنتاج 40 ألف طن من الألمنيوم الأخضر سنوياً، مما يجعل دولة الإمارات العربية المتحدة أول دولة تستخدم الطاقة الشمسية لإنتاج الألمنيوم
كما تعمل نفس الشركة على وضع نموذج أولي لتقنية صهر جديدة تعمل على تحسين الكفاءة بنسبة 22% وتقليل الانبعاثات بنسبة 12%.
وفي سلطنة عُمان، تسعى شركة “Vulcan Green Steel” لإنتاج الصلب مُنخفض الانبعاثات، فهي تدمج سلسلة القيمة بأكملها من منجم خام الحديد في الكاميرون إلى عمليات الإنتاج في عُمان باستخدام الحديد المختزل المباشر وأفران القوس الكهربائي لإدارة الانبعاثات.16
قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على تحقيق الريادة العالمية
كما توضح هذه المبادرات، فإن دول مجلس التعاون الخليجي لديها القدرة على أن تصبح رائدة عالمية في مجال إزالة الكربون الصناعي. وتتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بمزايا تنافسية استراتيجية تتضمن: إمكانات لافتة للطاقة المتجددة، والقدرة المالية الهائلة، وقاعدة صناعية متطورة، وموقعها الجغرافي القريب نسبياً من الأسواق الكبرى في أوروبا وشرق آسيا. ولتحقيق هذه الإمكانات، يجب على دول مجلس التعاون الخليجي التركيز على المبادرات المحورية التالية:
- إنشاء فريق عمل إقليمي لتنسيق استراتيجيات إزالة الكربون بين دول مجلس التعاون الخليجي، ويشمل ممثلين عن الحكومات والقطاعات الصناعية والجامعات والمنظمات الدولية. ويهدف إلى إزالة الحواجز أمام تجارة الطاقة المتجددة والمنتجات الخضراء. ويمكن أن تكون هيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي، التي نجحت في ربط شبكات الكهرباء في ست دول، مثالاً على ذلك.17
- ومع الإمكانات التي يوفرها الهيدروجين الأخضر في المنطقة، فإنه يجب إنشاء تحالف للهيدروجين الأخضر في دول مجلس التعاون الخليجي للاستثمار بشكل جماعي في البنية التحتية للهيدروجين الأخضر وتطويرها من خلال التركيز على خطوط الأنابيب المشتركة، والبحث والتطوير، ودراسة استراتيجيات التصدير. ويمكن أن يقلل هذا من التكاليف، ويخفف من المخاطر، ويساعد في ترسيخ مكانة دول مجلس التعاون الخليجي كقائد عالمي رائد في إنتاج الهيدروجين الأخضر. ويمكن أن يكون تحالف مماثل مفيداً في تعزيز مبادرات التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه.
- آليات التمويل الأخضر، مثل صندوق دول مجلس التعاون الخليجي الأخضر المدعوم من الصناديق السيادية: وتعمل القروض منخفضة الفائدة أو المنح أو الاستثمارات في الأسهم في المشاريع التي تلبي معايير الاستدامة الصارمة للمساعدة في تمويل مشاريع إزالة الكربون واسعة النطاق في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي.
- منظومة صناعية عابرة للحدود لإيجاد التكافل ودفع المزيد من التكامل الدائري بين مختلف الصناعات: بعضها موجود بالفعل، ولكن توسيع نطاقها وحجمها، وخصوصاً من الناحية الجغرافية، يمكن أن يؤدي على زيادة فوائد الاقتصاد الدائري.18
وختاماً، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تشكل نقطة تحوّل رئيسية لإعادة تعريف صناعاتها الثقيلة، ومن خلال استغلال مواردها وقدراتها المالية والتكنولوجية، وموقعها الاستراتيجي، يمكنها تحقيق الريادة في مجال الاستدامة الصناعية، مما يضع المنطقة في صدارة الابتكار والنمو الاقتصادي العالمي مع المساهمة في بناء مستقبل أكثر استدامة. إن الرحلة شاقة ومليئة بالتحديات، ولكن داخل هذه التحديات تكمن فرص هائلة للابتكار والنمو الاقتصادي والعيش في كوكب أكثر استدامة. وحتى الصناعات التقليدية يمكن أن تتجه نحو الاستدامة، مما يشكل سابقة للتغيير العالمي تضع دول مجلس التعاون الخليجي في المقدمة.
بقلم: جيسيبي بوناكورسي، مدير مفوض وشريك، وميكلوس فيزبريمي، استشاري