مع التسارع المتواصل لوتيرة التحضُّر عالميًا، لا سيما داخل المملكة العربية السعودية، أصبحت هناك حاجة ملحة أن توفر المدن مجتمعات صحية ومستدامة تنبض بأبهى صور الحياة للمواطنين، والمقيمين، والزوار. مما لا شك فيه أن المملكة تتمتع بالطموح والقدرات اللازمة لتطوير المدن الأكثر ملاءمة للمعيشة، لتُصبح نموذجًا يُحتذى به بين دول العالم.
تتبنى الرياض نهجًا رياديًا، وتعمل على تحقيق رؤية 2030 من خلال إطلاق المشاريع الطموحة، بما في ذلك حديقة الملك سلمان، التي تتوسط قلب العاصمة، كأكبر حديقة حضرية في العالم بمساحة شاسعة تبلغ أكثر من 13 كم²، مما يجعلها واحة خضراء ترتقي بمعايير المساحات الخضراء الحضرية إلى مستويات غير مسبوقة. يضرب هذا المشروع الواعد أروع الأمثلة في كيفية الاستفادة من التخطيط المدروس والإدارة المبتكرة لإنشاء مساحة خضراء متعددة الأوجه، تُلبي مُختلف احتياجات السكان وتُعزز الاستدامة في الوقت ذاته.
من المُزمع أن تثمر حديقة الملك سلمان عن العديد من الفوائد التي تُعزز الرفاه النفسي والبدني للأفراد؛ إذ توفر المنتزهات ملاذًا هادئًا بعيدًا عن صخب المدينة، فضلًا عن إتاحة مساحات للترفيه، والاسترخاء، والتفاعل الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدراسات أثبتت أن قضاء الوقت وسط المساحات الخضراء بانتظام، يؤدي إلى انخفاض مستويات التوتر، وتحسين الصحة النفسية، وزيادة النشاط البدني، مما يُساهم في صحة أفضل للسكان. تُشجع الحدائق أيضًا على التماسك الاجتماعي من خلال توفير مناطق مشتركة؛ حيث يمكن للمقيمين التجمع، فضلًا عن تعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع. لذا فليس من قبيل المبالغة القول أن المساحات الخضراء ستلعب دورًا لا غني عنه في بناء مستقبل أفضل للجميع.
بالإضافة إلى الأفراد، تزخر المساحات الخضراء بالعديد من الفوائد التي تعود على المدن؛ إذ تُحسن المظهر الجمالي للمناطق الحضرية، وتُعزز جاذبية المدن لتصبح أكثر ملاءمة للعيش والعمل، مما يؤدي إلى زيادة قيمة العقارات، وجذب الزوار، والمساهمة في تنمية الاقتصاد المحلي. يمكن للمتنزهات أن تلعب دورًا مهمًا أيضًا في التخطيط الحضري، من خلال استعادة الطبيعة البرية في المدن الحضرية كي لا تتحول المدن إلى غابات خرسانية باهتة.
من الناحية البيئية، تُعد المساحات الخضراء بمثابة الرئة التي تتنفس من خلالها المدن، في حين تساعد النباتات بالحدائق على إدارة الجريان السطحي للمياه في المناطق الحضرية، مما يُقلل من خطر الفيضانات، أما المناطق الخضراء المتنوعة بيولوجيًا فتُساهم في دعم الحياة البرية المحلية، مُعززة التنوع البيولوجي داخل البيئات الحضرية. والأهم من ذلك، أن المتنزهات الكبرى، بما في ذلك حديقة الملك سلمان، تعمل كمصارف طبيعية للكربون، وبالتالي تُخفف من آثار تغيُّر المناخ.
ولكن كما هو الحال مع جميع المشاريع التطويرية، يجب مراعاة بعض الاعتبارات في مراحل التخطيط، والبناء، والصيانة لضمان أفضل نتيجة وتحقيق الكفاءة القصوى. يُمكن تعلُّم بعض الدروس المستفادة من المساحات الخضراء الناجحة عالميًا، بما في ذلك حديقة “سنترال بارك” في نيويورك، و”هايد بارك” في لندن، والمتنزهات ذائعة الصيت في ملبورن بأستراليا، والتي تُعد أمثلة حية على كيفية اتباع أفضل الممارسات العالمية في إدارة المساحات الخضراء الحضرية. هناك أيضًا اعتبارات فريدة من نوعها مرتبطة بالطبيعة الخاصة للمملكة، ينبغي مراعاتها عبر ابتكار الحلول المُصممة خصيصًا. على سبيل المثال، عند الشروع في أعمال البستنة يجب الحرص على انتقاء النباتات الملائمة ليس فقط لهذا المشروع الضخم وإنما للمناخ السعودي الأوسع نطاقًا، لخلق بيئة أكثر استدامة مستقبلًا. إن مراعاة هذه الاعتبارات التفصيلية بدقة وكفاءة، سيتطلب الاستعانة بالمعرفة الواسعة والخبرة العالمية للقطاع الخاص، للعمل جنبًا إلى جنب مع المؤسسات الحكومية.
دور القطاع الخاص
إن النجاح المشهود في حديقة الملك سلمان من حيث التشييد والإدارة، يُسلّط الضوء على أهمية إشراك القطاع الخاص في مسيرة التنمية الوطنية. بفضل الخبرة الدولية التي نتمتع بها في إدارة المشاريع الضخمة، بما في ذلك حدائق ملبورن، اكتسبنا معرفة هائلة في جميع شؤون الإدارة بدءًا من الجوانب الجمالية التي تشمل تصميم المناظر الطبيعية وزراعة البذور، وحتى البنية التحتية وعمليات الصيانة المستمرة. إن هذا المستوى الرفيع من الخبرة في التعامل مع العمليات، وخدمات الزوار، ورضا العملاء، والإدارة البيئية، يضمن سير العمل داخل الحديقة بمنتهى الكفاءة وبطرق مستدامة. يزخر القطاع الخاص بإمكانيات وخبرات هائلة يمكن توظيفها من قِبل المؤسسات العامة، للاستفادة من تطبيق أحدث التقنيات المتطورة، وأفضل الممارسات والحلول المبتكرة التي تُعزز الجودة الشاملة واستدامة الحدائق الحضرية.
فرص تطوير مهارات الكوادر السعودية
مع إطلاق مشاريع الحدائق الحضرية الأكثر حداثة، أصبحت هناك حاجة ماسة إلى بناء الخبرات المحلية في مجال إدارة المساحات الخضراء واسعة النطاق في الرياض، بما في ذلك الوظائف المرتبطة بأعمال البستنة، والاستدامة، وغيرها. يُمثل استحداث هذه الوظائف “الخضراء” فرصة استثنائية لتدريب الأجيال الحالية والمستقبلية، وتوظيف الكفاءات السعودية ضمن هذه المجالات غير المسبوقة. يُمكن الاستعانة بالخبراء الدوليين للمساهمة في هذه العملية من خلال تسهيل نقل المعرفة، وبناء القدرات، والتأكد من تسلُّح العمالة المحلية بالمهارات والأدوات اللازمة لصيانة حديقة الملك سلمان وتعزيز كفاءة إدارتها.
احتضان الابتكارات التكنولوجية
تقام حديقة الملك سلمان على مساحة عامة شاسعة وشاملة، لتكون بمثابة واحة من الهدوء في قلب المدينة الصاخبة، ومع ذلك فإن التكنولوجيا، بما في ذلك “إنترنت الأشياء”، وهو الجيل الجديد من الإنترنت الذي يتيح التفاهم بين الأجهزة المترابطة مع بعضها عبر الإنترنت، وغيرها من التقنيات الحديثة، ستلعب دورًا رئيسيًا في إدارة الحدائق العصرية؛ إذ يمكن توظيف الابتكارات التكنولوجية في مراقبة نمو الغطاء النباتي وصحة النباتات، لا سيما في ظل المناخ الحار داخل المنطقة، فضلًا عن استخدام أنظمة الري الذكية التي تُقلل من هدر المياه، والإضاءة الموفرة للطاقة للحد من الآثار البيئية، وغيرها الكثير من التقنيات المتطورة التي ستُساهم بفعالية في مُختلف العمليات الإدارية.
التركيز على تجربة المستخدم
إن تقديم تجارب رفيعة المستوى للمستخدمين يُعد أمرًا ضروريا، ويتطلب هذا تصميمًا مدروسًا يأخذ في الاعتبار إتاحة الوصول، وضمان السلامة، وتلبية الاحتياجات المتنوعة للزوار. على سبيل المثال، كيف سيصل الزوار إلى الحديقة؟ للإجابة على هذا التساؤل بشكل عملي، يجب دراسة تنفيذ نظام للتنقل الخفيف سواء للوصول إلى الحديقة أو التنقل داخلها، مع اعتماد وسائل نقل مستدامة وسهلة الاستخدام، بما في ذلك المركبات ذاتية القيادة، أو الدراجات الكهربائية، أو حتى حلول أخرى أكثر ابتكارًا. يجب أيضًا تصميم المسارات داخل الحديقة بدقة فائقة مع وضع علامات مميزة لتسهل للجميع استخدامها، ولمراعاة ذوي الاحتياجات الخاصة، إلى جانب توفير وسائل الراحة بما في ذلك المقاعد، ودورات المياه، ومناطق الاستراحة في مواقع مناسبة. بالإضافة إلى ذلك، فإن توفير المساحات اللازمة لممارسة مختلف الأنشطة، بدءًا من جلسات التأمل الهادئة، وحتى الرياضات الحماسية، سيُلبي احتياجات جميع زوار الحديقة، من السكان المحليين والزوار، لا سيما مع تزايد الدور الفاعل للرياض على الساحة العالمية.
الاستفادة من البيانات الفضائية لإدارة أكثر فعالية
يُعد استخدام البيانات الفضائية نهجًا فائق التطور لإدارة الحدائق؛ إذ يمكن أن توفر التقنيات الحديثة وأبرزها صور الأقمار الاصطناعية رؤىً وتحليلات مهمة حول صحة النباتات، ومستويات رطوبة التربة، ومناطق تدهور الغطاء النباتي. يتيح هذا النهج القائم على البيانات إدارة أفضل للري، مما يضمن استخدام موارد المياه على النحو الأمثل وبطرق أكثر استدامة. فضلًا عن هذا، ستُساعد مراقبة هذه العوامل فرق الصيانة في معالجة المشكلات بشكل استباقي، مما يُعزز من مرونة الحديقة واستدامتها.
مما لا شك فيه أن إطلاق مشاريع المساحات خضراء، بما في ذلك حديقة الملك سلمان، يعتبر لا غنى عنه من أجل مستقبل المدن الأكثر ملاءمة للمعيشة. ولتحقيق هذه الرؤية الوطنية الواعدة، يتطلب الأمر إقامة الشراكات البناءة بين المؤسسات العامة وشركات القطاع الخاص، مما سيعود بالنفع على الأفراد، والمدن، والبيئة. يمكن لمدينة الرياض أن تصبح نموذجًا يُحتذى به عالميًا، من خلال تبني أفضل الممارسات في إدارة الحدائق، والاستفادة من أحدث التطورات التكنولوجية، مع تعزيز الخبرات المحلية، لتمكين المدينة من إنشاء حديقة حضرية تستقطب الجميع.
بقلم “منى الثقفي”، المديرة الإقليمية لشركة سيركو الشرق الأوسط بالمملكة العربية السعودية