تسارع وتيرة التحول الرقمي والاتجاه نحو الاعتماد على نماذج العمل الهجينة على نطاق واسع، هم من النتائج التي أدى إليها وباء كورونا العالمي حيث قلب عالم العمل رأساً على عقب حتى يومنا هذا.
بالنسبة للكثيرين، أجبرت أزمة الوباء على التوقف وإعادة النظر في ما هو مهم، وما يريدون، وما يشعرون به، مع التفكير في أهمية الصحة الذهنية والرفاهية والازدهار، وضرورة تحقيق التوازن بينهما وبين العمل.
استمر ذلك لما بعد الوباء حيث ما زال يتم إجراء المزيد من المحادثات حول الصحة العقلية، والمطالبة بتحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة
تسلط ESG Mena الضوء على هذا الأمر بالتزامن مع اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يقع في شهر أكتوبر من كل عام، في محاولة لاستكشاف كيف تتغير الأمور في الشرق الأوسط وما ينتظرنا في عالم العمل.
إعادة ترتيب الأولويات
وجد تقرير غالوب (Gallup) “حالة مكان العمل العالمي: تقرير 2023” لهذا العام أن العديد من الموظفين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير سعداء، حيث كشف عن الآتي:
- 15% فقط من الموظفين يشاركون بنشاط في مكان العمل
- 45% عانوا من التوتر كثيراً في اليوم السابق
- وشعر 32% بالغضب كثيراً في اليوم السابق (ثاني أعلى نسبة على مستوى العالم)
- وتبلغ نسبة “الاستقالة الهادئة” 62 %
- · أما نسبة “الاستقالات الصاخبة” فهي 23%
لذا، وبالنظر إلى هذا المستوى العالي من عدم الارتباط بمكان العمل وعدم الرضا، يظهر التساؤل حول ما الذي يبحث عنه الموظفون؟
توصلت دراسة استقصائية حديثة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) وشبكة The Network ، وشملت 90 ألف شخص من 160 دولة، بما في ذلك دولاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى أن 69% من المشاركين يرغبون في وظيفة مستقرة مع توازن جيد بين العمل والحياة . وهذه أولوية كبيرة لدى الكثيرين، حيث وجد موقع بيت.كوم (Bayt.com) العام الماضي أن أكثر من 50% من الموظفين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد فكروا في ترك وظائفهم بسبب عدم وجود توازن بين العمل والحياة الشخصية.
وتعليقاً على ذلك، أوضحت عائشة أمارسي، المدير الأول ومسؤول توظيف الموارد البشرية في Hays Middle East، أنه على الرغم من أن الراتب لا يزال عامل جذب مهم، فإن الموظفين يهتمون بحزمة المزايا (بنسبة 65% من المبحوثين)، والتوازن بين العمل والحياة (52 %) والوظيفة ويعتبر التطوير (47 %)، كأهم العوامل بالنسبة للموظفين المحترفين عند التفكير في عمل جديد.
وأضافت أمارسي أنه علاوة على ذلك، فإن العمل المرن، والذي يعد مرادف للتوازن بين العمل والحياة، أصبح الآن الميزة الأكثر قيمة للموظفين في دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 35 % لدي المبحوثين المشاركون في استطلاع الرأي، مضيفة أنه في عالم العمل اليوم، هناك وعي متزايد بالصحة الجسدية والعقلية، وكيف يساهم ذلك في مستويات الإنتاجية وحياة الرفاهية لدى الأشخاص.
وأشارت أمارسي كذلك إلى أن المنطقة تشهد أيضاً تحولاً فيما يتعلق بقيم الأجيال، حيث يشكل جيل الألفية والجيل Z الآن نسبة كبيرة من القوى العاملة، وتؤثر مطالبهم على سياسة مكان العمل.
وترى لشيخة الهرمودي، التي تعمل كمنسقة برامج في مركز الشارقة لريادة الأعمال وهي أيضاً عضو في مجلس شباب الشارقة، أنه من المهم أن يشعر الموظفون بالدعم والتقدير، وأن يكون متاحاً لديهم حوار مفتوح مع القيادة، حيث يجب أن يكون هناك نقاش متبادل حول التطوير والسعادة والأهداف الشخصية بجانب أهداف العمل.
علاوة على ذلك، أوضحت شيخة الهرمودي أنه من المهم أن يكون لدى الموظف مدير يتبنى أفكار جميع أعضاء الفريق، بغض النظر عن الأقدمية، سواء كان ذلك متدرباً أو موظفاً جديداً، وهو الأمر الذي قالت إنه يمكن أن يعمل على تسهيل الابتكار.
نماذج عمل مختلفة
لقد أظهر الوباء أن الوضع الافتراضي للعمل المكتبي ليس شرطًا للنجاح، وعلى الرغم من أن العمل عن بعد قد تم تخفيفه بالتأكيد مع رفع القيود، إلا أن نماذج العمل الهجين ظلت شائعة، وليس من الصعب فهم السبب، حيث توضح الدكتورة جولي كانتور، مؤسسة شركة جي بي كانتور للاستشارات وعالمة النفس والمدربة والمؤلفة، أن العمل الهجين يمنح الموظفين المزيد من المرونة، مما يعني المزيد من الوقت لمتابعة الحياة خارج العمل، سواء كان ذلك قضاء المزيد من الوقت في الاجتماع مع الأصدقاء أو الذهاب إلى العمل أو ناد رياضي.
ولكن، على الجانب الآخر، عندما يصبح منزل الموظف مكان عمله، قد يصبح الانفصال عن العمل صعباً، وهو أمر عاني منه الكثيرون طوال فترة الوباء، وهنا تظهر أهمية إنشاء الحدود بحسب الدكتورة جولي كانتور التي ترى أن كل من الموظفون وأصحاب العمل يتحملون مسؤولية إنشاء تلك الحدود للفصل بين العمل والحياة الشخصية. وعلى المستوى الفردي، قالت إن الأمر كله يتعلق بتعلم المهارات اللازمة لإنشاء تلك الحدود، ولكن يتعين على أصحاب العمل أيضاً وضع معايير وتوقعات واضحة.
ومع النماذج الهجينة وانتشار العمل عن بعد، ظهرت التساؤلات حول مستويات الإنتاجية والتي انقسم فيها الباحثون الباحثون، حيث تشير بعض الأبحاث إلى أن العمل عن بعد يمكن أن يعزز الإنتاجية، وتشير دراسات أخرى إلى أن العمل من المنزل يقلل الإنتاجية . ولكن على أرض الواقع رأينا خلال السنوات القليلة الماضية عدداً من الشركات الكبرى عالمياً، بما في ذلك تويتر وجوجل وأبل، إما تفرض حظراً على العمل عن بعد أو تقليصه.
وفقاً لأبحاث مؤسسة جارتنر، يعتمد النجاح على نوع نموذج العمل الهجين الذي تتبناه الشركات حيث يعتبر تصميم العمل الذي يتمحور حول الإنسان النموذج الأمثل، والذي يستخدم مستويات أعلى من مرونة الموقع والتعاون المتعمد والإدارة القائمة على التعاطف
توصلت “جارتنر” إلى أن أماكن العمل التي تطبق هذا النهج هي أكثر عرضة بنسبة 3.1 مرات لرؤية مستويات منخفضة من الإرهاق، وأكثر احتمالاً بنسبة 3.8 مرات لرؤية أداء عالٍ، وأكثر احتمالاً بنسبة 3.2 مرات لرؤية نية عالية للبقاء في الوظيفة.
لا أحد ينكر أن إدارة فريق بعيد أو هجين قد يكون أمر صعب في بعض الأحيان، حيث أوضحت كانتور أنه يتعين على القادة تحديد التسليمات بطريقة لم يفعلوها من قبل، وعلاوة على ذلك، يحتاج القادة أيضاً إلى العمل بجدية أكبر لتسهيل الاتصالات، والتركيز أكثر على مشاركة الموظفين. ولكن مع مطالبة العديد من العاملين بمزيد من المرونة وتوافر الكثير من الأمثلة حول كيفية القيام بذلك بشكل صحيح.
هل تتكيف أماكن العمل؟
والسؤال هنا، هل يتحول المزيد من الشركات في المنطقة إلى النموذج المختلط؟
وفقاً لجوستين ماكغواير، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة MCG Talent في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ، فإن الجزء الأكبر من الشركات أصبح يقدم نماذج عمل هجينة، مضيفاً أنه هناك أيضاً مجموعة كبيرة الشركات لم تتغير ولو قليلاً.
وفقاً لماكغواير، يعتمد الأمر أيضاً على طبيعة سوق العمل، حيث سلط الضوء على كل من التكنولوجيا والتمويل باعتبارهما أسواقاً لا يزال العاملين يشعرون فيها بالارتياح لكونهم يعملون عن بعد.
ولكن على الرغم من عدم اعتماد نماذج العمل المرنة أو الهجينة بالضرورة في جميع المجالات، فقد أشار ماكغواير إلى أنه في دولة الإمارات العربية المتحدة، تم تحقيق “تقدم كبير” في العمل عن بعد والمرن والهجين، بصورة لم تكن موجودة من قبل.
علاوة على ذلك، قال ماكغواير إن إدخال نظام التأشيرة الذهبية والسهولة التي يمكن من خلالها الحصول على تأشيرة عمل مستقل يغير أيضاً مشهد العمل في الإمارات، وأتاح للكثيرين اختيار متى وأين وكيف يريدون العمل واختيار المكان الذي يهتم فيه الناس بصحتهم العقلية.
ونوهت أمارسي إلى أنه في دولة الإمارات العربية المتحدة، انتقلت حوالي 80% من المؤسسات إلى أسبوع عمل جديد (4 أيام) في عام 2022، ويبدو أن هذا كان له تأثير إيجابي بشكل عام على التوازن بين العمل والحياة، حيث تشمل مزايا سياسة أسبوع العمل الجديدة توازناً أفضل بين العمل والحياة (بنسبة 46% طبقاً لآراء المبحوثين)، ومزيداً من المرونة (28%)، وتعزيز الرفاهية الاجتماعية (22%)، وفي إمارة الشارقة، على سبيل المثال، تم اعتماد أسبوع عمل مدته أربعة أيام، وتظهر الأبحاث الحكومية أن هذا أدى إلى ارتفاع بنسبة 90% في الأداء الوظيفي، والسعادة، والصحة العقلية.
وتتفق شيخة الهرمودي إنه على الرغم من العمل في بيئة مزدحمة وسريعة الخطى، فإن الأسبوع المكون من أربعة أيام يعني أن الناس لا يشعرون بأنهم مرهقون ويعني أيضاً أن لدى الناس المزيد من الوقت لإثراء أنفسهم، وأن هذا يتيح قيام النساء والرجال ببدء المشاريع الخاصة والأعمال التجارية أو الدراسة، مما يعمل في النهاية على تغذية المجتمع بطريقة إيجابية وتغير الثقافة عن العمل.
تغيير الثقافة؟
وفقاً للدكتور كانتور، يحتاج القادة إلى إعداد أنفسهم للتعامل مع هذا التغيير، وتدريب أنفسهم على التقاط الإشارات ومراقبة التغيرات السلوكية، وإجراء محادثات حول هذا الأمر مع الموظفين، حيث يبحث هؤلاء عن المزيد من الأشياء مثل دعم الصحة العقلية، مشيراً إلى أنه كما هو الحال على المستوى العالمي، يعد هذا التحول نحو إعطاء الأولوية للصحة العقلية للموظفين ورفاهيتهم أمراً جديداً ومتطوراً في المنطقة، وما زال هناك الكثير في الطريق لنقطعه.
وبينما لا تعتمد كل أماكن العمل في جميع أنحاء المنطقة نماذج عمل مرنة أو هجينة، أو تقدم جلسات علاج مجانية أو تمنح الموظفين يوم إجازة إضافي، فإن الطريقة التي يتم بها التعامل مع الرفاهية والتوازن بين العمل والحياة الشخصية ومناقشتها آخذة في التغير، حيث إنه كما تشير الدراسات والأبحاث، فإن القوى العاملة السعيدة يمكن أن تؤدي إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة والإبداع، ويربح الجميع في نهاية الأمر.